أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله إذ استقرأ الأدلة وخلص إلى أن جميعها يدل على أن العلم المعتبر هو الملجئ إلى العمل به، لم يقتصر جهده الإصلاحي للعلم من حيث كونه كذلك أي وسيلة إلى التعبد به على ما يتعلق ببنائه الداخلي من حيث تأسيسه على أصول قطعية، وتخليصه من التعقيدات المنطقية تصورا وتصديقا؛ وإنما جاوز ذلك إلى ما يتعلق بمظهره الخارجي، وذلك من جهة قناتيه تحملا وأداء، وطرفيه عالما ومتعلما، ومستوييه صلبا وملحا.
مستويات العلم
أما من حيث مستويا العلم فقد جعلهما الشاطبي على مرتبتين متفاوتتين قال ” من العلم ما هو من صلب العلم ومنه ما هو من ملح العلم لا من صلبه ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه فهذه ثلاثة أقسام ” فالقسمان الأولان خاصة من العلم دون الثالث وأولهما أعلاه وذروة سنامه لأنه مقطوع به بالقصد الأول أو بالتبع فكان بذلك “هو الأصل والمعتمد والذي مدار الطلب وإليه تنتهي مقاصد الراسخين ذلك ما كان قطعيا أو راجعا إلى أصل قطعي”(1) وقد رصد له خواص ثلاثة تترجم بالتبع اطراده وإحكامه وحاكميته، قال “لهذا القسم خواص ثلاثة بهن يمتاز عن غيره : إحداها العموم والاطراد فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا وهو معنى كونها عامة… والثانية الثبوت من غير زوال فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا و لا تخصيصا لعمومها و لا تقييدا لإطلاقها و لا رفعا لحكم من أحكامها لا بحسب عموم المكلفين و لا بحسب خصوص بعضهم و لا بحسب زمان دون زمان و لا حال دون حال… والثالثة كون العلم حاكما لا محكوما عليه بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به، فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل أو يصوب نحوه لا زائدا على ذلك”(2).
والقسم الثاني أدنى من الأول بيد أن ذلك لا ينفي عنه صفة العلمية وقد يمثل الدرك الأوسط والأسفل منها. وذلك باعتبار استناده إلى أصل غير مقطوع به أو إلى أصل مقطوع به لكن من غير استيفاء لخواصه قال “القسم الثاني وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي بل إلى ظني أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو أكثر من خاصة واحدة”(3)
وأما القسم الثالث فهو ما لم تتحقق فيه أدنى شروط العلمية فضلا عن أعلاها “فهو غير ثابت ولا حاكم ولا مطرد” ناهيك عن أنه ليس كالملح “التي تستحسنها العقول وتستملحها النفوس إذ ليس يصحبها منفر ولا هي مما تعادي العلوم لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة بخلاف هذا القسم فإنه ليس فيه شيء من ذلك”(4) وعليه فهو ليس من العلم البثة وإن كان الضمير المتصل بمن في قوله “ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه” يوحي بظاهره إلى أنه من أقسام العلم فإن ذلك مردود بما مؤداه أنه إن فرض التسليم بهذا التوجيه فهو جار مجرى التغليب فقط واندراجه تحت مسمى العلم كاندراج الموضوع تحت مسمى الحديث عند أهل الحديث فكما أن هذا ليس بحديث أصلا فكذلك هذا القسم ليس بعلم أصلا. هذا وفي تصريح أبي إسحاق رحمه الله بذلك قطع جهيزة قول كل خطيب قال “فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال”.
ولعل الإمام الشاطبي بتمييزه بين هذه الأقسام وترتيبه لمستويي العلم إنما قصد فيما قصد تقويم أود التحصيل من قبل المنتسبين إلى العلم في زمانه والذي اختل باعوجاجه سلم أولويات الطلب بحيث ابتلي الطلاب في عصره بالسفاسف أو في أحسن الأحوال بما فيه شبهة من علم بيد أنه ليس العلم الباعث على العمل الذي يخرج المكلف عن داعية هواه فانحط بذلك مستوى التدين الذي لا تقوم له قائمة إلا بتنزيل مقتضيات العلم الشرعي الصادرة عن صلبه قبل ملحه.
مراتب أهل العلم ومنتسبيه
وقد جعل الشاطبي أهل العلم الشرعي وفق اصطلاحه على ثلاث مراتب متفاوتة بدءا بالمقلد ومرورا بالواقف عند البراهين دون النتائج وانتهاء بمن حصل ثمرات العمل الصالح فصار على سبيل التخييل علما يمشي على قدمين قال “المرتبة الأولى الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد…. والثانية الواقفون منه على براهينه ارتفاعا عن حضيض التقليد المجرد…. والثالثة الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول أو تقاربها ولا ينظر إلى طريق حصولها فإن ذلك لا يحتاج إليه فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية (قال) وهذه المرتبة هي المترجم لها”(5) أي في المقدمة الثامنة وهي معروضة ضمن مقدمات الموافقات الثلاث عشر وهي كما قال “على الاختصار أمر باطن وهو الذي عبر عنه بالخشية… وهو راجع إلى معنى الآية”(6) أي قوله عز وجل {إنما يخشى الله من عباده العلماء}. وهذه المرتبة لا يصل إليها إلا من عافاه الله عند التحصيل من داء السآمة ورزق الصبر عند الطلب على الإدامة ذلك أن “المثابرة على طلب العلم والتفقه فيه وعدم الاجتزاء باليسير منه يجر إلى العمل به ويلجئ إليه”.
طرق التحصيل والتنزيل
وأهل الخشية من العلماء هم مربو هذه الأمة ومعلموها وهم أرفع المدارس عند التحمل إذ “من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام”(7). وذلك بطريق المشافهة إذ هي الطريق الأنفع والأسلم للتحمل وبها يتحقق أكثر ما يتحقق الفهم الذي هو طريق العلم بحيث يحصل إما “بأمر عادي من قرائن أحوال وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال وقد يحصل بأمر غير معتاد ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه وهذا ليس ينكر”(8).
ولا ريب في أنه إذا ما لازم المتعلم أهل التحقيق من أهل العلـــم يجعــل الله له بشروط العلم نورا يمشي به في الناس وقد حصرها أبو إسحاق في ثلاثة أحدها العمل بما علم والثاني أن يكون رباه الشيوخ في ذلك العلم… والثالث الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه.
فإذا ما تعذر عليه السماع والمشافهة سلك الطريق الثاني وهو المطالعة ولا ينتفع به إلا بضبط الألفاظ الدائرة بين أهل النظر في العلم الذي يبغي تحصيله مع ضبط مقاصده. ولابد في ذلك من بعض مشافهة أهله ثم الاطلاع على كتب المتقدمين قال : “الطريق الثاني مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين وهو أيضا نافع في بابه بشرطين : الأول أن يحصـــل له من فهم مقاصـــد ذلك العلـــم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم به النظر في الكتب وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه… والشرط الثاني أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين…”(9).
هذا ما يتعلق بالتحمل من جهة المتعلم أما ما يتعلق بأداء العلم من جهة العالم فيلزم فيه احترام مستويي العلم صلبا وملحا فلا يجعل الأول من الثاني إلا بقدر الحاجة بحيث لا يجره ذلك إلى استطراد ممل يفوت به المقصود عند الشرح والتقرير فيصدق فيه ما قيل في تفسير فخر الدين الرازي “فيه كل شيء ماعدا التفسير” قال “وقد يعرض للقسم الأول أن يعد من الثاني ويتصور ذلك في خلط بعض العلوم ببعض كالفقيه يبني فقهه على مسألة نحوية مثلا فيرجع إلى تقريرها مسألة كما يقررها النحوي لا مقدمة مسلمة ثم يرد مسألته الفقهية إليها. والذي كان من شأنه أن يأتي بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبني عليها فلما لم يفعل ذلك وأخذ يتكلم فيها وفي تصحيحها وضبطها والاستدلال عليها كما يفعله النحوي صار الإتيان بذلك فضلا غير محتاج إليه”(10).
هذا ولا يسمح للعالم أن يسقط فيما يمكن تسميته بهجنة العلم عند الإلقاء فيخرق بذلك بلاغة الأداء بحيث لا يكون العلم مطابقا لمقتضى حال المتعلم فإن ذلك ليس من التربية في شيء وإنما هو افتقار إليها قال “ويعرض أيضا للقسم الأول أن يصير من الثالث ويتصور ذلك في من يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها على ضد التربية المشروعة… وإذا عرض للقسم الأول أن يعد من الثالث فأولى أن يعرض للثاني أن يعد من الثالث لأنه أقرب إليه من الأول فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني وإلا لم يكن مربيا واحتاج هو إلى عالم يربيه”(11).
والملاحظ من أبي إسحاق أنه يتحدث عن التربية المشروعة والتربية العلمية وهو ما يعكس البعد البيداغوجي في فكره التربوي الذي يجعل مبناه عند التعلم على ثلاثة أركان : المعلم ثم الكتاب ثم اصطلاحات العلم ومقاصده، وعند التعليم على ركنين : تحقيق العلم وتنزيله سلوكا وعملا من قبل العالم المعلم ثم صيانة بلاغة أدائه بمراعاة مستويات متعلميه. وهذه المعاني الصحيحة المليحة لو أنها وأمثالها في تراثنا تستقرأ وترص، ثم تدرس وتفحص وذلك في ضوء قراءة أعمق وأدق للنفس وبالنفس ستكون ولا ريب فتحا مبينا توتي في كنفه نظريات تربوية إسلامية أكلها بإذن ربها بحيث تترجم هويتنا الإسلامية بكل أبعادها ومقوماتها فيقيم صلبها الوحي إيمانا والتراث تاريخا والعربية لغة والعالم الإسلامي جغرافية.
ذ. عبد المجيد بالبصير
———–
1- الموافقات للإمام أبي إسحاق الشاطبي تحقيق الشيخ محمد عبد الله دراز 1/77.
2- نفسه 1/77 إلى 79
3- نفسه 1/79
4- نفسه 1/85
5- نفسه 1/69-70
6- نفسه 1/76
7- نفسه 1/91
8- نفسه 1/96
9- نفسه 1/97
10- نفسه 1/86
11- نفسه 1/86-87