بعد أيام قليلة ستحيي الأمة المغربية ذكرى عيد الاستقلال يوم 18 نوفمبر، وهي سنة سنها الشعب المغربي بل القائمون على شؤونه منذ حصوله على الاستقلال سنة 1956م، وتتوقف الإدارات والمؤسسات التعليمية عن العمل احتفاء بهذه الذكرى، واستحضاراً لتلك اللحظة التي انتشى فيها المغاربة بلحظة الانتصار (النسبي) على الدخيل الذي وطئ أرضهم بغير حق، وسلبهم حرياتهم، ونهب خيراتهم، وحرّف ما استطاع من مقوماتهم الحضارية. هذه المعاني مسجلة في ذاكرة الأمة المغربية منذ تلك اللحظة عند كل من كانوا في مستوى وعي الحدث : حدث الاستقلال، وعزموا على تثبيته في التاريخ ونقله إلى الأجيال التي ستخلفهم، حتى يتوارت المغاربة الشعور بالعزة وصون الكرامة. والسؤال الملح : هل استقل المغاربة فعلا، استقلالا شاملا كما تقتضيه دلالة مصطلح الاستقلال؟ أو بمعنى آخر هل تحرر المغاربة من كل تبعات الدخيل التي تعني المس بكرامة الأمة المغربية بشكل من الأشكال جغرافيا، واقتصاديا، وعمرانيا، وسياسيا، ولغويا… وغير هذا من المقومات الحضارية التي تميز الأمة وتضمن لها كرامتها؟
وبما أن الأمر يتطلب دراسة علمية نزيهة للوقوف عند ما يمكن أن يكون مشتركاً بين الشعوب والأمم مصداقا لقوله تعالى : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..}(الحجرات : 13). وبين ما ينبغي أن يكون خاصّاً بأمة دون سواها، مما يوجب المفاصلة والتمايز مصداقاً لقوله تعالى : {لكم دينكم ولي ديني}(الكافرون : 6)، وقوله تعالى : {إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله}(يونس : 104) نظراً لهذه المفاصلة التي يقرها رب العالمين بين الناس فيما يومنون به أو يكفرون. فإن الأمر يقتضي الدراسة العلمية المتأنية لكل مجال من المجالات المشار إليها أعلاه وغيرها مما يعتبر مقوماً حضارياً للأمم والشعوب، وهذا أمر غير متيسر، في هذه المقالة المحصورة في حيز على صفحات الجريدة، ولذا سنقف عند مقوم واحد هو اللغة كما جاء في العنوان “الاستقلال اللغوي…”.
وحتى لا نتهم بالتحيز لجهة على حساب أخرى أو نُرمى بغبش في الرؤية وضيق الأفق، أو ننتقي الخطاب الإرضائي لنوصف بالتحرر والتفتح، فراراً من كل هذا نترك اللغة تتحدث عن نفسها بقواعدها التي يمكن أن يو ظفها كل نزيه يتقنها، فنقول ما معنى الاستقلال لغة؟
يقول ابن منظور : >واستقل الطائر في طيرانه نهض للطيران وارتفع في الهواء، واستقل ا لنبات : أناف. واستقل القوم : ذهبوا وارتحلوا.. واستقلت السماء : ارتفعت.. وفي الحديث : إذا ارتفعت الشمس فالصلاة محصورة حتى يستقل الرمح بالظل أي حتى يبلغ الرمح المغروس في الأرض أدنى غاية القلة والنقص…<(ل ع 566/11 بتصرف)
نلاحظ أن لفعل (استقل) الذي هو أصل المصدر (الاستقلال) معاني متنوعة وكلها إيجابية يمكن أن نقيس بها وضعنا اللغوي وهذه المعاني هي :
1- الارتفاع في الهواء، والاتفاع الحسِّي للطائر يقابله الارتفاع المعنوي للغة.
2- النمو والزيادة وهو ما يستفاد من قوله : >استقل النبات : أناف بمعنى زاد، يقال وأنافت الدراهيم على المائة زادت، ونمو النبات الحي يقابله نمو اللغة الحسي بزيادة مفرداتها، وتعابيرها الجديدة التي تساير مستجدات الحياة. فهل نالت اللغة العربية حظها من هذا المعنى؟!
3- الارتحال والتحرك، ولا تثبت هذه الصفة أي التنقل والارتحال إلا لمن كان حراً في شخصه، فهل للعربية حرية التحرك والانتشار؟
4- بلوغ الغاية، وهو ما يستفاد من بلوغ ظل الرمح غايته، ويقابله معنويا بلوغ اللغة العربية أقصى ما يمكن من توظيف إمكاناتها.
والأسئلة الواردة بناء على ما سبق : هل يرتفع أهل العربية بلغتهم؟ وهل يسعون لانمائها في إطار نظريات لغوية تضمن لها شخصيتها؟ وهل يُنتجون بها في كافة المجالات حتى يضْمَنُوا لها النمو الطبيعي الذي يساير مستجدات الحياة وهل وهل…؟!
هذا عن الدلالة اللغوية لمصطلح الاستقلال، أما الدلالة الاصطلاحية فتعني من جملة ما تعنيه أن يكون زمام أمور أهل البلد المستقل بأيديهم بكامل الحرية، إلا فيما يقتضي التعاون والتآزر مع الغير فإنه لا حرج حينئذ من أن يتم بعض التنازل في إطار الأخذ والعطاء شريطة أن تكون السيادة موفورة.
ولا تقل الدلالة الاصطلاحية واللغوية لكلمة >لغة< أهمية من دلالتي الاستقلال لغة واصطلاحا. فما يتعلق بالدلالة على ضرورة الاستقلال اللغوي لكل أمة تحترم نفسها، ويشعر أفرادها بانتمائهم الحضاري المتميز، وفي هذا السياق يقول ابن جني >وأما تصريفها (أي اللغة) ومعرفة حروفها فإنها فُعْلة من لغوت أي تكلمت<(الخصائص 33/1)، فامتلاك مجتمع ما للغة معينة يعني أنه يتكلم بها ويتواصل، ويتفاهم في شؤون حياته الخاصة والعامة، وهو ما يجعله كائنا متميزاً عن كثير من الكائنات الحية التي لا تملك هذا المقوم الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوانات، قال تعالى : {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان}(الرحمان : 4) لكن البيان خاصية مشتركة بين كل المعافين من الناس، ويبقى التمايز بين بيان قوم وقوم في إطار اللسان، قال تعالى : {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}(ابراهيم : 4)، وفي سياق هذه الآية أورد ابن جني تعريفه الاصطلاحي للغة إذ قال : >أمّا حدها (فإنها أصوات) يعبر بها كل قوم عن أغراضهم<(الخصائص 33/1) ولعل ابن جني استلهم تعريفه هذا للغة من الآية الكريمة، ذلك أن ثمة تظافراً ملحاً بين الآية والتعريف على استقلال كل مجموعة بشرية في مكان معين بلغتها، وهذا ما توضحه الآية الكريمة {بلسان قومه} فالإضافة هنا في {قومه} تعني النسبة، والرسول المبين للقوم لا يمكن أن يكون إلا واحدا منهم، وإلا تعذر البيان، فهل ندرك هذه الحقيقة عندما نخاطب الناس بما لا يفهمون، فلنتصور أن خطابا رسميا ألقي على أمواج الإذاعة الوطنية وشاشة التلفزيون بإحدى اللغات التي تستعملها في نشراتنا الإخبارية، وفي الحوارات التي تقدم للمواطنين المغاربة باختلاف شرائحهم الاجتماعية. فلو تسلم كل مواطن استمارة معينة بعد الخطاب مباشرة، يطلب منه فيها أن يجيب عن أسئلة معينة تحدد مدى ما فهمه من ذلك الخطاب، فهل نتصور أن الأجوبة ستكون متقاربة؟ ما لم يكن الخطاب باللسان الذي تفهمه كل الشرائح الاجتماعية أو جلها على الأقل، ولذا جاء الحصر في الآية {إلا بلسان قومه} والحصر والقصر من أساليب التوكيد.
وقد أشرنا أعلاه إلى أن بين الآية الكريمة والتعريف الذي أورده ابن جني نوعاً من التظافر الملح على الاستقلال اللغوي، ويتجلى هذا التضافر في كلمة قوم {إلا بلسان قومه} في الآ ية، و>يعبر بها كل قوم< في التعريف. وهذا ما يستوجب الوقوف عند كلمة (القوم) لتوضيح دورها في الآية والتعريف معا. يقول الكفوي : >القوم : كل من يقوم الرئيس بأمرهم، أو يقومون بأمره فهو القوم<(الكليات :203)، ولا يمكن لرئيس مّا أن يتحكم في أية مجموعة بشرية إلا إذا كانت تحت إمرته في بقعة معينة وضمن حدود جغرافية معينة. وهذا ما يفرض استقلال اللغة عند أولئك القوم حتى تكتمل معالم شخصية تلك الأمة التي يحكمها رئيس معين وفق حدود معينة. وإذا كانت الأشياء تقترض وتستعار بل وتشترى إن اقتضى الحال، فإن اللغة لا تخضع لهذه المعايير، إلا في حالة واحدة هي عندما تتنازل الأمة عن كرامتها، وتتخلى عن وحدتها التي تضمن للرئيس أن يقوم وفقها على شؤونها، و>كل لغة تعكس واقعاً اجتماعياً وحضاريا يكوّن خصائصها وجوانبها المتعددة<(اللغة العربية في إطارها الاجتماعي ص 35). من ذلك أن الدراسات الاجتماعية تعتمد اللغة لدراسة حياة المجتمع (القوم) الذي يتكلمها يقول مصطفى لطفي : >أما علم الاجتماع فيرتبط بعلم اللغة بحكم دراسته لمختلف الخصائص والظواهر الاجتماعية ومنها اللغة، فيلتقي العلمان في مبحث مشترك هو علم الاجتماع اللغوي الذي يتناول مدى العلاقة القائمة بين اللغة والمجتمع، وبتعبير أدق مدى تأثر الأشكال والأساليب اللغوية بالمعطيات الاجتماعية التي تستعمل اللغة ضمنها<(ص 43- 44).
وبخصوص علاقة اللغة بالمجتمع نلاحظ أن اللغة العربية تحتفظ بكثير من صور مجتمعها، بل أكثر من ذلك علاقة الإنسان العربي المسلم بمحيطه، وفي هذا السياق نعرض مجموعة من البنيات اللغوية التي تعبر عن شيء مما سبقت الإشارة إليه من ذلك :
1- أوس : الآس : شجر عطِر الرائحة، والواحدة آسة.
والأوْس : الذئب، وسمي به وبمصغره أيضاً (الفيومي 20).
2- بدر : .. بدَرَ إلى الشيء بدوراً.. أسرع.. وبدرت منه بادرة غضب : سبقت، والبادرة الخطأ أيضاً… والبدْر : القمر ليلة كماله، وهو مصدر في الأصل.. ثم سمي الرجل به، وبدر موضع بين مكة والمدينة.. قال : وسميت (بدراً) لأن الماء كان لرجل من جهينة اسمه (بدْر >والبيدر الموضع الذي تداس فيه الحبوب<(25).
3- عمر : المنزل بأهله عمراً فهو عامر وسمي بالمضارع 222.
نلاحظ من خلال هذه الأمثلة اللغوية القليلة مدى علاقة اللغة العربية بمحيطها، فالمثال الأول (1) وحده يحيلنا على الطبيعة والإنسان فالآسُ شجرة عطرة، وهذه إشارة للحياة والنعومة، إذ لا يمكن للشجرة أن تنبت وتعرف بغلتها إلا إذا كانت ظروف المناخ مواتية. والعطر يحيل على ذوق الإنسان العربي المتمدن. وفي هذا الفضاء الرحب الأمين يعيش الحيوان عيشة هادئة، ويعرف نوع منه بذكائه وحيله حتى يعرف اسمه ويشاع ذلك هو الأوس : (الذئب) الذي ينقل اسمه من دلالته على هذا الحيوان الذكي ليطلق على مجموعة بشرية هي القبيلة المسماة الأوس، وهي قبيلة معروفة في أحداث صدر الدعوة الإسلامية، وأوْس على وزن فعْل وهي صيغة مصدر في قواعد اللغة العربية، ولذا قال في النص أعلاه وسمي به وبمصغره (أوّيْس).
أما المثال الثاني (بدْر) فهو مصدر أيضاً تأرجحت التسمية به بين الإنسان والطبيعة، فالاسم (بدْر) علم على إنسان، وهو اسم للقمر في وضع معين من النمو والإضاءة، وهو اسم لمكان له رمزيته في تاريخ بناء الأمة الإسلامية.
ويأتي المثال الثالث ليَدُلّ ما يشتق منه على تسميات مادية حسية ومعنوية، فالمصدر عمْرو علم على شخص إنسان، وعامر صفة يسمى بها الإنسان والجماعة منه، وكذا يسمى بمضارعه (يعْمُر).
ولوتتبعنا بنيات اللغة العربية لوجدنا أنها تصور واقع حياة الإنسان العربي، وتحتفظ بصور من تاريخه، فالاسم الزبير مثلا تصغير لمصدر فعل (زبر) ومنه الزبير بن العوام أحد الصحابة العشرة. والبيطار اسم للطبيب الخاص بالحيوانات وهو من البطر أي الشق وفعله بيطر، وعائشة اسم فاعل مؤنث من مادة عاش. واسم فاعله عائش، والأنثى عائشة، وفاطمة صفة للمرضع عندما تفطم الصبي فهي اسم فاعل لمؤنث مثل عائشة، يقال فطمت المرضع الرضيع فطْماً فهي فاطمة. وعندما تربط مثل هذه التسميات (فاطمة، وعائشة) بأصل القاعدة ندرك القصد الذي يكمن وراء مثل هذا النوع من التسميات، فكل من عائشة وفاطمة اسم فاعل من الفعل الثلاثي وقد جاء في تعريف اسم الفاعل ما يلي : >اسم مشتق من مصدر الفعل… للدلالة على من وقع منه الفعل -أو قام به : على قصد التجدد والحدوث<(الهاشمي 310) وعليه فالذي سمى ابنته عائشة يريد أن تعيش وتتجدد حياتها إلى ما شاء الله، والذي سمى ابنته فاطمة يريد لها أن تعيش حتى تنجب وتربي حتى تفطم، ويتكرر منها ذلك ويتجدد. وهذا الحكم ينطبق على نوع من الأسماء المنقولة : وفي هذا السياق يقول ابن يعيش : >والمنقول عن الصفة نحو مالك وفاطمة.. قال تعالى : {مالك يوم الدين} وقال : {قل اللهم مالك الملك} وفاطمة فاعلة من فطمت الأم ولدها فهي فاطمة، وكذلك حاتم ونائلة، حاتم فاعل من حتمت الأمر إذ أحْكَمْتُه، أو من الحتم وهو القضاء، ونائلة فاعلة من نولته أي أعطيته. فهذه في الأصل أوصاف لأنها أسماء فاعلين ثم نقلت فصارت أعلاماً كما صار أسد وثور كذلك<(ش المفصل 25/1).
تلك ملامح علاقة اللغة العربية بمحيطها الطبيعي، والانساني والحضاري والسؤال الوارد بإلحاح هل اللغات التي نتبناها بديلا عن العربية تفي بهذا الغرض؟ وهل يمكن أن يتم التواصل بها مع مكونات الحضارة العربية الإسلامية؟ وهل تبنيها اختيار حر لأهداف مرسومة، أم ضرورة فرضتها ظروف فوق المستطاع؟ إذا لم يكن كل ذلك كذلك، فإن الاستقلال اللغوي ضرورة حضارية! ذلك أن كل لغة تعبر عن تجارب قومها وتعجز أن تعبر عن تجارب الآخرين، ولذا فنحن عندما نقدم لغة قوم على لغتنا فإننا نفضل أن نعيش تجارب أولائك الأقوام على حساب تجاربنا، وعليه يكون انتماؤنا الحضاري من وجهه نظر اللغة أمراً مشكوكاً فيه، وهذا موقف لا يرضاه أي شريف لنفسه.