لا حديث هذه الأيام في وسائل الإعلام إلا عن الأزمة المالية التي أصابت الإقتصاد العالمي، وأزالت عنه زينته، وكشفت عواره، وبينت أنه إنما كان كلابس ثوب زور، ومتشبع بما لم يُعْطَ. ذلك أن مظاهر الرقي والرفاه والازدهار تخبئ وراءها بؤسا، وشقاء، وجشعا، واختلالات اجتماعية، ولهاثا وراء المال والريح السريح على حساب القيم والأخلاق. إن المُتأمل في ما حدث ليدرك بجلاء زيف ادعاءات المنظرين والخبراء الاقتصاديين ومن حَدَا حَدْوَهم، الذين ما فتئوا يروجون للرأسمالية واقتصاد السوق حتي نصبوها عجلا يُعْبد، وجعلوا منها واحة غَنَّاء تُقْصد، لمن أراد بحبوبة العيش، ورام الدخول إلى جنة الحداثة، قال تعالى : {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا}.
فها هم قد سُقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، وصاح عقلاؤهم بملء فِيهِم أنه لا مخرج إلا في الأخذ بمنظومة الإسلام الاقتصادية، وهيهات هيهات، إذ الإسلام لا يقبل التجزيء والتبعيض قال سبحانه {أفتومنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}. فالمخرج ليس في الاقتصاد الإسلامي، بل في الدين الإسلامي جملة، والدين أساسه وقطب رحاه، الأخلاق والقيم، قال الشاطبي رمه الله : (الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق) وما بعث النبي إلا ليتم صالح الأخلاق، وقد قال الشاعر :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فلاريب إذن أن تتهاوى الحضارات التي انكمشت فيها الأخلاق والقيم، وانتشرت فيها الرذائل والانحرافات بشتى صورها، قال سبحانه : {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} قال أهل التفسير : أمرنا مترفيها -أي أغنياءها وساداتها- بالعدل وإقامة الحق -إذ الله لا يأمر بالفحشاء- ولكنهم فسقوا -أي خرجوا عن منهج الله، وما الخروج عن منهج الله إلا هدم لصرح الأخلاق والقيم الذي وضع لبناته الرسل والأنبياء.
وحتى نسمي الأشياء بمسمياتها، فإن الأزمة المالية هي في الحقيقة أزمة أخلاقية، ومتى صمت البشرية آذانها عن سماع نداء الحق، وهو يصف الدواء، ويكشف عن مكمن الداء، فإنها لن تزداد إلا شقاء وتعاسة، قال جل جلاله : {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} وإن سكن القصور وناطحات السحب، وركب أفخر المراكب، فإن الشقاء والضنك يعشش بين حناياه، ويلازمه في حِلِّه وترحاله، ورحم الله الحسن البصري إن قال : (إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهمْلَجَت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه) اللهم انقلنا من ذل المعصية إلى عز الطاعة، آمين.