يبدأ استعداد المسلمين -في جميع بقاع الأرض- لأداء فريضة الحج في أشهر الحج المعلومة، قال تعالى : {الحج أشهر معلومات}(البقرة : 196).
وأشهر الحج هي : شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة.
جاء الإسلام فأحيا الله تعالى به شعائر إبراهيم ، وفرض الحج إلى بيت الله الحرام على المسلمين، قال تعالى : {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}(آل عمران : 97) والحج تتركز أعماله في أربعة أركان : إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفات.
وللحج آداب وقيم، وشعائر وحِكم، فمن آداب الحج العظيمة ما يعدده قوله تعالى : {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفثت ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}(البقرة : 196) وقوله : >من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه<(رواه البخاري). سئل رسول الله أي الأعمـال أفضل؟ قال : >إيمان بالله ورسوله< قيل : ثم ماذا؟ قال : >جهاد في سبيل الله< قيل : ثم ماذا؟ قال : >حج مبرور<<(رواه البخاري). قال الإمام النووي رحمه الله : >الحج المبرور هو الذي لا يرتكب فيه صاحبه معصية< وعن جابر ] عن النبي قال : >الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة< قيل : وما بره؟ قال : إطعام الطعام وطيب الكلام<(رواه أحمد).
الحج المبرور هو البعد عن الجدال وترك الفسوق وهجر الرفث، ولزوم الأدب وحسن الخلق وتجنب الفوضى والتزام النظام، والحج المبرور هو رد المظالم وأداء الآمانات والتسامح مع الناس، والحج المبرور هو النفقة الحلال، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. وقد ورد في الحديث عن رسول الله : >إذا خرج الحاج حاجاً بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز، فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء : لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة (المال الحرام) فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك زادك حرام، ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مأجور<(رواه الطبراني).
إن المسلم الذي اختاره الله تعالى لأداء هذه الفريضة سيرى بعينه الأرض التي شهدت أروع الأمثلة في الثقة بالله وحده، والإيمان الكامل به سبحانه، فهذا سيدنا إبراهيم أطاع ربه وترك هاجر ووليدهما إسماعيل عليه السلام، تركهما في هذا الوادي القفر الموحش، وليس معهما ما يكفي للإقامة من زاد وماء، ولما همّ إبراهيم بتركهما ليسافر إلى الشام، قالت له زوجته هاجر >آالله أمرك بهذا؟< فقال : >نعم< فقالت في رضا وإيمان وصبر ويقين : >إذن لا يضيعنا الله< وكان جزاء هذا الإيمان بيتاً معموراً يحج إليه الملايين من البشر إلى يوم الدين، وذكراً خالداً مع مر السنين، ورسالة أشرقت في هذا المكان حملها إلى البشر جميعاً خاتم المرسلين محمد بن عبد الله ، سترى أيها الحاج بعينك البلد الذي درج فيه النبي محمد ، وانبعثت منه صيحة الحق بالتوحيد، وستمر بذاكرتك أيام الإسلام الأولى، التي صمد فيها الرسول وحده أمام كفار قريش، وسار في طريق الدعوة إلى الله صادعاً بأمر ربه، صابراً على متاعب الحياة القاسية، واضطهاد قومه، وخذلان عشيرته له، وكيف تم له النصر في النهاية بالفتح المبين، وارتفعت كلمة التوحيد : لا إله إلا الله، حول الكعبة المشرفة وأصبح البلد الذي كان مهداً للشرك مثابة للناس وأمناً. ستشاهد أيها الحاج آثاراً ومشاهد كان الإسلام فيها صولة، وكان للتاريخ فيها عبرة، وستنتقل بين ربوعها من ذكرى إلى ذكرى، تملأ نفسك عزة وفخراً، وتزيد قلبك إيماناً ويقيناً، وسترجع إن شاء الله بعد ذلك إنساناً آخر تحمل قلباً كبيراً ونفساً عظيمة.
حاول أيها الحاج واجتهد أن يكون حجك مبروراً، فأطعم الطعام وألن الكلام وتودد إلى الناس، وتعاون معهم على الخير، واعلم أن أخلاقك ستظهر على حقيقتها بمعاشرة الناس لك في هذه الرحلة التي هي محك للأخلاق، واختبار للنفوس، وتنبه لتحذير الله تعالى لك ولكافة الحجاج، من الرفث والفسوق والجدال، فإن المضايقات هناك كثيرة، لا ينتصر عليها إلا من ضبط نفسه وقهر هواه، وتنازل عن الأفكار والسلوكات التي كان متشبعاً بها وهو في بلده، عليك أيها الحاج أن تحسن إلى الناس، وأن تصبر على آذاهم وتخدمهم، وأحقهم بذلك من جمعتك بهم رفقة السفر، فالإحسان إليهم وخدمتهم أفضل من العبادة القاصرة على النفس، قدِمَ ناس من أصحاب رسول الله من سفر يثنون على صاحب لهم، قالوا : ما رأينا مثل فلان قط، ما كان في مسير إلا كان في قراءة، ولا نزلنا منزلاً إلا كان في صلاة، قال : >من كان يكفيه ضيعته< حتى ذكر : >من كان يعلف دابته< قالوا : نحن، قال : >فكلكم خير منه<.
تقرب أيها الحاج إلى الله تعالى بعمل الخير للناس، فخذ بيد الضعيف، واقض حاجة المحتاج، وأثر على نفسك ولا تؤثر نفسك على الناس، ولا تجعل كل همك لقباً تعود به ليناديك الناس به، بل اجتهد في أن تبدل شخصيتك بشخصية أخرى مقوماتها الإيمان الكامل والخلق الفاضل، والنفس الخيرة، والنية الصادقة، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، واحرص أيها الحاج على أن تؤدي المناسك في خشوع وإجلال لله تعالى، قال تعالى : {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}(الحج : 30).
بهذا يتم الله عليك النعمة، وتعود إلى وطنك بالحسنيين وليكن شعارك أيها الحاج بعد أداء فريضة الحج، أن تكون من الذين يتمثلون بحكمة العمل في الدنيا كمزرعة للآخرة.
ويستحب لك أيها الحاج أن تجعل خاتمة أعمالك في الحج زيارة المسجد النبوي -إذا لم تكن قد زرته قبل ذهابك إلى مكة- بالمدينة المنورة وقبره ، وتسلم عليه وعلى صاحبيه أبي ذكر وعمر رضي الله عنهما، ولما في زيارة المسجد النبوي من الثواب العظيم، قال : >صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام<(رواه البخاري)، كما يستحب لك أن تزور بعد ذلك البقيع حيث مدفن كثير من عظماء الإسلام.
أيها الحاج عليك أن تدعو الله في تلك الأماكن المقدسة أن يجمع الله شمل المسلمين، ويوحد صفوفهم، وأن يعلي كلمة الحق وينصر أتباعه، ويخفض كلمة الباطل ويهزم أشياعه، وأن يعيد للمسلمين مجدهم الأول، وأن يخلصهم من الاستعباد، وأن يوفق قادة الأمة الإسلامية إلى ما فيه خيرها وصلاحها وهيبتها.
{ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير}(التحريم : 8).