على امتداد تاريخ المغرب وتاريخ الأمة الإسلامية جمعاء، بل وأيضا تاريخ الإنسانية بأكملها نرى أناسا صنعوا تاريخ بلادهم صنعا، وبنوا مجدها بناءً، بل إن بعضهم استطاع أن يغير مجرى التاريخ كما يقال، نتيجة صنيع أفعالهم وكريم خصالهم وحميد مآثرهم.
والمقصود طبعا وكما هو واضح أولئك الذين بنوا، لا الذين هدَّموا، والذين أنشأوا لا الذين دمروا، والذين أحْيوا لا الذين أبادوا، والذين عمّروا لا الذين خرّبُوا، وبذلك تميز صناع الحضارة الإسلامية عن غيرهم، حيث يشهد التاريخ أنهم كانوا هم البانين، هم المنشئين، هم المعمّرين (بالمفهوم القرآني لا بالمفهوم الكولنيالي، أي عمارة الأرض) هم المشيدين، هم أصحاب السلم والسلام الحقيقيين هم أصحاب التساكن والتعايش المخلصين، هم أصحاب العدل والمساواة المقسطين، هم الرحماء المتسامحين، وباختصار هم أصحاب الحضارة الإنسانية.
ذلك ما عرفه “تاريخ الأمة على امتداد حقبها وأزمانها وبلدانها، ولم يخل تاريخ الأمة الحديث من أناس نذروا أنفسهم وأرواحهم لخدمة الأمة والدفاع عن مقدساتها والحفاظ على أصالتها، والدفع بها نحو مدارج الرقي والتقدم.
ولم يكن المغرب طبعا، بمعزل عما عرفه تاريخ الأمة القديم والحديث من رجالات أخلصوا لدينهم ولوطنهم وأمتهم فسطروا بذلك صفحات ناصعة سجلها التاريخ بمداد الفخر والاعتزاز.
ويأتي في مقدمة هؤلاء : المقاومون المجاهدون الذين قاوموا الاستعمار، فكانت لهم اليد الطولى في إخراج قواته من الوطن، بعد أن كبدوه خسائر فادحة، ولم يكن هدفهم إلا تحرير الوطن من رجس الاستعمار.
وحتى أولئك الذين تولوا مناصب بعد الاستقلال تولوها بهدف خدمة الوطن وبنائه، وبقوا مخلصين لخط المقاومة مؤيدين لحركات التحرر في العالم الإسلامي والعربي، وفي مقدمة ذلك حركة المقاومة الفلسطينية.
ولعل في مقدمة هؤلاء الدكتور عبد الكريم الخطيب رحمه الله تعالى شهد له الجميع بالوطنية، والإخلاص للدين ومقدساته والدفاع عن محارمه، فكان رحمه الله النموذج المثالي الذي لم يغره المنصب حينما تولاه بعد الاستقلال من أن يبقى مرتبطا بأحاسيس الشعب وآماله، وكان يؤمن بأن العروبة وعاء الإسلام ولسان القرآن المبين، كما أن زعامته الحزبية لم تكن لتجعله أسير رؤية حزبية ضيقة تحجب عنه واقع الأمة الحقيقي، بل كان واسع الأفق، تعكس نبضات قلبه آلام الوطن والأمة كيفما كانت.
رحمه الله وأسكنه فسيج الجنان.