عن جندب بن عبد الله بن سفيان ]، قال : قال النبي : >مَنْ سَمَّعَ سَمَّع اللّه به، ومَنْ يرائِي يُرَائِي اللّه بِه<(رواه البخاري ومسلم).
1- الإخـلاص شرط قبول العمل الصالح :
إن الله تعالى لا يقبل من الأعمال الصالحة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، لذلك ورد في الحديث القدسي : >أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه<.
وجاء في كتاب الله قوله تعالى : {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}.
فواجب على العبد أن يخلص فيما يتقرب به إلى ربه، مصداقا لقوله تعالى : {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة وذلك دين القيمة}، وقوله تعالى : {فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص}، وقوله تعالى : {قل إني أُمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين}.
2- الرياء وحب السمعة والشهرة خسارة فادحة :
وأما عدم الإخلاص لله تعالى في العمل فهو خسارة لا تقاس بغيره، لأن الإنسان الذي لا يريد بعمله وجه الله يعمل ويتعب ويجد ويكد ويجتهد ولكنه لا يربح أجراً ولا ثواباً حيث ابتغى بعمله غير الله، وحيث أراد بعمله شهرة وسمعة ومكانة بين الناس وأحب بعمله أن يجري اسمه على ألسنة الناس وأن يذكر عندهم بما قام به من عمل حسن، ورغب في أن يمدحوه ويثنوا عليه، وقد قال : >إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم<.
3- ذم الرياء والنهي عنه لما فيه من أضرار على صاحبه :
وفي ذم الرّياء والنهي عنه روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله بن سفيان ]، قال : قال النبي : >مَنْ سَمَّعَ سَمَّع اللّه به، ومَنْ يرائِي يُرَائِي اللّه بِه<.
فأضرّ شيء على العبد، أن يعمل عملا، أو يقول قولا، لا يريد به وجه الله، ولو كان ذلك جميلا في ظاهره كأن يؤدي بعمله رسالة أو يبلغ أمانة أو يجلب منفعه أو يجرّ مصلحة أو يدفع ضرراً، أو يَصُدَّ خطرا أو يبعد مفسدة، فإذا كان يُسِرُّ غير ما يعلن ويظهر خلان ما يُبطن فإن عمله غير مقبول، ومثله من يسبح ويهلل، ويقرأ القرآن، ويخطب، ويُعلم، ويدعو إلى الله بلسانه، ولكن قلبه غافل وذاهل، ومشغول بغير الله، ومعوّل ومتكل على سوى الله، وحسبه من الخير ثناء الجاهلين عليه، واستمالة قلوبهم إليه، إذا قرأ جوّد، وإذا وعظ بكى. وإذا خطب أو درّس لم يَلحن، وجاء بالعَجَب العُجاب، وقد يصلي، ويتصدق ويصوم ويعتكف، ولكنه يخادع وينافق، ويكذب ويمكر ويزور، يقول بفيه ما ليس في قلبه ويرائي الناس بما يعمله لربه، وفيه يقول الله تعالى : {فوَيْل للمُصلِّين الذين هُم عن صلاتِهم ساهُون، الذِين هُم يُراءُون ويمْنعون الماعون}. ويحذر الله عباده المؤمنين من الرياء بقوله تعالى : {يأيّها الذِين آمنوا لا تُبْطِلوا صدقَاتِكم بالمنّ والأذَى كالّذِي ينْفِق مالَه رِئَاء النّاس ولا يُؤمن بالله واليوْم الآخر، فمثله كمثَل صفْوانٍ عليه تُراب فأصابَه وابل فتركَهُ صلداً لا يقْدِرُون على شيْء مِمّا كسَبُوا، واللّه لا يهْدِي القوْمَ الكافِرين}.
وفي آية أخرى يقول الله تعالى : {والذِين يُنْفِقون أموالَهُم رِئَاءَ النّاسِ ولا يؤمنون بالله ولا باليومِ الآخر، ومن يَكن الشّيْطان له قريناً فساءَ قريناً}.
وبهذا الحديث وأمثاله في الموضوع يحذرنا النبي من الرياء والسمعة، كأن يعمل المسلم عملا يبتغي به الشهرة وثناء الناس عليه، لأنه لا يصنع الخير حبا فيه، ولا يترك الشر كراهة له، بل ربما إذا خلا بنفسه ارتكب العظائم، واقترف الجرائم، وقصَّر في الواجبات والمندوبات، ومَنْ أحسنَ الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربَّه تبارك وتعالى، واتصف فيها بصفة المنافقين {الذِين يُخادِعُون الله وهو خادِعُهم، وإذاَ قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالَى، يُراءُون النّاس ولا يَذْكرون الله إلا قليلاً، مُذبْذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يُضْلِل الله فلن تجد له سَبِيلا}، وقال : >يخرُج في آخر الزّمان رجال يخْتِلون الدّنيا بالدِّين، يلبسُون للنّاسِ جُلودَ الضّأْن من اللِّين، ألْسِنَتُهم أحْلَى من العَسَل، وقلوبُهُم قلوبُ الذّئابِ، يقول الله عز وجل : أبِي يغترُّون؟ أم عليّ يجترئون؟ فبي حلفْتُ لأبعثنّ على أولئك منهُم فتنةً تدَعُ الحليمَ حيْران<.
4- المراؤون جزاؤهم نار جهنم :
ومن تزين بعمل الآخرة وهو لا يريدها ولا يطلبها لُعن في السموات والأرض، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : >إنّ في جهنّم لوَادياً تستعيذُ جهنمُ من ذلك الوادي في كلّ يوْم أربعمائة مرّة، أعد ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد : كحامل كتاب الله، والمتصدق في غير ذات الله، والحاج إلى بيت الله، والخارج في سبيل الله : يعني من المرائين، قال : >إن أول الناس يُقْضى يوم القيامة عليه : رجل استُشهِد فأتِي به فعرَّفه نِعمه، فعرفها قال : فما عِملت فيها، قال : قاتلْت فيك حتّى استُشْهِدت، قال : كذبت، ولكنّك قاتلت لأن يُقال فُلان جرِيء فقد قيل، ثم أُمِر به فسُِحب على وجهه حتى أُلْقي في النّار. ورجُل تعلّم العِلم وعلّمه، وقرَأ القرآن فأتِي به فعرّفه بِعَمله فعرَفَها، قال : فَما عمِلْت، قال : تعلّمت العِلم وعمِلت به، وقرأْت فيك القرآن، قال : كذَبْت، ولكنك تعلّمت ليُقال عالِم، وقرأت القرآن ليُقال هو قارِئ، فقد قيل، ثم أمِر بِه فسُحِب على وجْهه حتّى أُلقي في النّار، ورجُل وسّع الله عليه، وأعْطاه مِن أصناف المال فأتي به فعرّفه نِعمهُ فعرَفها، فقال ما عمِلْت فيها؟ قال ما تركْتُ مِن سَبيل تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلاّ أنْفَقْتُ فِيها لك، قال : كذَبْت، ولكنّك فعَلْت ليُقال هو جوادٌ فقَد قيل، ثم أُمر به فسُحِب على وجْهِه حتّى ألْقي في النّار<. وكان النبي يستعيذ بالله من جُب الحَزَنِ، ويخبر أنه موضع من جهنم أعده الله للمرائين في أعمالهم. ولا يصاب بالرياء إلا الذين يعملون الخير بظواهرهم، وهم بالله وآياته يستهزئون. وقد سبق أن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم حيث قال تعالى : {إِلَيْه يصْعدُ الكلِم الطّيِّب والعَملُ الصّالِح يرْفعُه}، وأراد بذلك ما كان خالياً من الرياء والسمعة، فقد أحبط عمل المرائين، ووعدهم بالعذاب الشديد في الآية نفسها {والذِين يمْكُرُون السّيِّئَاتِ لهُم عذابٌ شديدٌ ومَكرُ أولئِك هو يَبُور}.
وكل عمل فيه رياء معدود من السيئات، وإن كان صالحا في ظاهره، وما يلبث صاحبه أن يظهر سره، ويتضح أمره، فيحيق به مكره، وعلى الإخلاص وعدمه، يترتب حسن الخاتمة وسوءها، كما جاء في الحديث الشريف : >إنّ أحدكُم ليَعْمل بعمَل أهل الجنّة فِيما يبْدُو للنّاس حتّى ما يكُون بيْنَه وبيْنَها إلاّ ذراعٌ فيسْبق عليه الكتابُ فيعملُ بعمَل أهل النّار فيدْخُلها، وإنّ أحدكم ليَعمل بعمل أهل النّار فيما يبْدُو للنّاسِ حتّى ما يكُون بيْنَه وبيْنَهَا إلاّ ذِراع فيسْبِق عليه الكتابُ، فيعْمل بعَمل أهْل الجنّة فيدْخُلها<.
5- الرياء أردى في النار رجلا من أهل أحد :
وكان مع المسلمين يوم أُحد رجل يقاتل حتى أُعجب به، وقيل فيه خيرٌ، فقال النبي : >إنّه مِن أهل النّار< واستغرب الناس ذلك، وقام أحدهم ينظر أعماله وما يصنع يومئذ حتى إذا أثخنته الجراح أخذ سيفه فانتحر به وقتل نفسه، وقيل له في ذلك : فقال إنه كان يقاتل حَميَّة وعصبيَّةً، وأبى الله إلا أن يمو ت على نيته، وصدق فيه كلام من لا ينطق عن الهوى، وقال رجل : يا رسول الله أحدنا يقاتل شجاعةً، ويقاتل حَمِيَّةً، ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله : >من قَاتَل لتكُون كلمة الله هي العُلْىا فهوَ في سبيل الله<. ويدخل في قوله : >منْ سمَّع سمَّع اللّه به< الذين يُشَقِّقُون الخُطَب، وينمقون الألفاظ، ويتقعرون في الكلمات، ويمططون أصواتهم بالتلاوة والآذان، ليقال أصواتهم حسنة، وألسنتهم فصيحة، وما لهم من بلاغة القول إلا ما تستحسنه الآذان، ولا ينفذ منها إلى القلوب، وإنما يؤثر في النفوس القول البليغ الذي يتوصل به السامع إلى قصد المتكلم، ويبلغ به المنفعة المرجوّة له ولقائله، وكذلك يدخل فيه الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، والذين يتتبعون عثرات الناس، ويتكشفون عوراتهم، من أجل أن يفضحوهم، وإذا سمعوا منهم الكلمة طاروا بها في الآفاق، وملأوا بها القلوب والآذان، لا لشيء سوى الإنكار على قائلها والتسميع به، والله لا يحب كل أفاك أثيم.
فاللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وعيوننا من الخيانة.
> من كتاب إصلاح المجتمع بتصرف لمؤلفه محمد بن سالم البيحاني