الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له…..
عباد الله :
إن جمعتنا هذه هي آخر جمعة من هذا الشهر المبارك الكريم أفلا يليق بنا أن نخصص ساعة من الزمان نحاسب فيها أنفسنا على ما قدمناه في هذا الشهر؟ وننظر هل تغير فينا شيء بتأثير الصيام؟
أما السلف الصالح من هذه الأمة، فقد كان رمضان يحدث فيهم تغييراً عظيما في طعامهم وشرابهم، في حديثهم ومناجاتهم، في أعمالهم وأوقاتهم وفي كل شؤون حياتهم.
كانوا يجوعون حقا، ويظمأون حقا، كانت ألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله وكانت أعمالهم تصفو أكثر مما كان يشوبها أحيانا من نقص، وتخلص أوقاتُهم للعبادة بمعناها الشامل…
فكنت ترى -أنى اتجهت- روح رمضان واضحة ملموسة، حتى كأن كل فرد من المسلمين هو رمضان يتحرك على قدميه بطهره وجماله، وسموه وصفائه، مشرقا بالنهار، مضيئا بالليل، مرتقيا سلم الهداية، داعيا إلى الاقتداء بالسلوك القويم.
أما نحن.. فقد صار رمضان كذلك يحدث فينا تغيرات كثيرة لا أكلفكم سماعها الآن، فقد رأيتموها وسمعتموها وعلمتموها وإن إعادة ذكرها يزيدنا أسفا وحسرة.
فبأي شعور نودع هذا الشهر الكريم الذي أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، والذي قال فيه رسول الله : >قد جاء شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه تُفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرَها فقد حُرم<(رواه أحمد والنسائي عن أبي هريرة) بل بأي روح نستقبل العيد، وكيف يتأتى لنا السرور والمرح في العيد وبين أيدينا فيض من السيئات، وعجز في الحسنات؟
فنحن أيها المسلمون إما أن نكون غيرَ مبالين، سواء أحْسنّا أم أسأنا، وهذا هو الضلال والغفلة والعياذ بالله، وإما أن نكون راضين مرتاحين لأعمالنا التي نراها نحن حسنة وهذه هي التزكية المنهي عنها شرعا، قال تعالى : {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}. وإما أن نقف موقف الخجل والخشية والندم، وهذا ما يليق بنا إن اعترفنا مخلصين بتهاوننا وتقصيرنا، وصدَقت النياتُ على إحداث تغيير حقيقي في النفوس.
أيها المسلمون من كان يعبد الله في رمضان فقط فإن رمضان ذاهب ومودع. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، باق لا يزول، يعلم ما تُكِن الصدور وما تُعلِن.
وها نحن الآن في خواتيم رمضان، وفيها يعتق الله بعض عباده من النار، نسأله سبحانه أن يجعلنا منهم، وإنما تعتبر الأعمال بخواتيمها، فلينهض المتنافسون وليكثروا من البر والإحسان، والصلاة مع تلاوة القرآن، وكل عمل يرضاه الرحمان.
يا من وفقكم الله إلى الصلاة بمناسبة هذا الشهر المبارك إياكم أن ترتدوا على أعقابكم بعد رمضان فتنقلبوا متكاسلين في الصلوات والطاعات فإن عبادة الله ليست محصورة بالمواسم والمناسبات، ولن يضمن أحدنا الحياة إلى رمضان آخر مقبل، فاستمسكوا بدينكم، يرحمكم الله وأوفوا بعهدكم، وجددوا عزمكم على أن تبقى صلتُكم قوية بربكم، فكم من مواضع في هذه المساجد تصير فارغة من أصحابها بعد رمضان! كأنما أقام بها قوم مسافرون ثم رحلوا!
اللهم إنا نسألك برحمتك التي وسِعت كل شيء أن تغفر لنا وترحمنا، اللهم ثبتنا على طاعتك….
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه…
عباد الله :
تعلمون أن رسول الله فرض علينا عند إفطارنا من صيام شهر رمضان زكاة الفطر.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين.. وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس من الصلاة<(متفق عليه).
فهي إذن واجبة بالسنة، ووقتُ وجوبها من طلوع فجر يوم العيد إلى الصلاة.. وأجاز العلماء إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين قال نافع : (كان ابن عمر يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين) أي قبل وقت وجوبها وذلك كي يتأتى للمسكين تهييء ما يحتاجه ليوم العيد منها.
ويخرجُها المسلم عن نفسه وعن كل من تجب عليه نفقته شرعاً، كالأبناء والزوجة والأبوين.. وتُدفع للمسلم المسكين الذي لا يملك قوت يوم العيد ونحو ذلك… ويُقدَّم ذوو القربى، ثم مساكين الحي والمدينة، ويُراعى فيهم الحاجةُ والتمسكُ بالدين بالأولى.. ولا يُلتفت إلى ذي صحبةٍ أو صداقة أو وضعيةٍ اجتماعيةٍ كالكناس والخباز والحارسِ والخادِم والأجير… إلا إذا توفرت فيه صفةُ المسكنة ومن شاء أن يكرمهم فليعطهم من غير زكاة الفطر والذي ينبغي أن يَلتفِت إليه المسلم أن الله تعالى عندما قال : {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} افترض فيك أيها المسلم أنك تعرف من هو المسكين.. وذلك لا يتأتى إلا بالبحث والتحري والاهتمام بشؤون المسلمين في رمضان وغيره. فليس مسكينا كلّ من يدعي أو يتظاهر أنه مسكين!
وحتى تقع زكواتنا وصدقاتُنا في مواضعها المناسبة ينبغي أن لا نترك فرصة للمحترفين المتكاسلين الذين يحتالون على أموال المحسنين بمسكنتهم المصطنعة. فيَحرِمون المساكين الحقيقيين، الذين لا يسألون الناس إلحافاً، ويشوهون مظاهر أعيادِ المسلمين وأيامهم التي هي عنوان عزة الأمة وشرفِها.
فعلى كل مسلم أن يبحث جهد المستطاع عن المسكين الحق، فقد يكون مريضاً ذا عيال، أو ذا أجرٍ زهيد لا يفي حتى بضرورات حياته اليومية، وقد تكون أرملةً ذات أيتام تستحيي أن تتسول في الطرقات.. وقد يكون طالبَ علم مسكيناً، وقد يكون مديناً أثقلته الديون في الحلال، فاحفظوا على المسلمين ماء وجوههم وكرامَتهم يزدكم الله إيماناً وعزة وتكريما..
لقد كان الخلفاء الراشدون يُلقون القبضَ على كل من يتسول يوم العيد فيُسأل ويُبحث، فإن وُجد محتاجاً حقّاً، عوتب جيرانُه على تفريطهم فيه وإن وجد غير محتاج أدِّبَ ونُزع منه ما جَمَع، لأن الغرض من زكاة الفطر هو إغناءُ المساكين عن الطواف في هذا اليوم.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله زكاة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات<(رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه الحاكم).
وروى الدارقطني وابن عدي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال : >أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم<.
ومن أخّرها عن يوم العيد وقع في حرام، ولا تسقط من ذمته، ومن لم يجد قوت يومه فليست واجبة عليه.
وتؤدى من غالب قوتِ أهل البلد.. وأفتى علماءُ الحنفية وبعض العلماء المعاصرين بجواز دفع قيمتها نقداً، وعلماء المذهب المالكي لا يرون دفع القيمة. فمن أخرجها من الحبوب فعن كل نفس صاعٌ، والصاع أربعة أمداد، والمد حفنة متوسطة ليست مقبوضة ولا مبسوطة.
أيها المسلمون قدموا صدقاتكم طيبةً بها نفوسكم وأخرجوا زكواتكم قبل الذهاب إلى الصلاة إن لم تكونوا أخرجتموها من قبل، وتناولوا شيئا من الطعام قبل التوجه إلى المصلى، واصحَبوا معكم نساءكم وأبناءكم، واغدوا من طريق، وعودوا من طريق أخرى، ولا تُصَلوا أيّة ركعة إذا وصلتم إلى المصلى إلا إذا صليتم العيد بالمساجد، وسبحوا وكبّروا عند ذهابكم وإيابكم، وانتظارِكم للصلاة وتدبروا في ذلك الجمع الصغير الذي يشوقكم في الجمع الكبير على جبل عرفات والذي ينذركم كذلك من الجمع الأكبر يوم النشر والحشر أمام رب العزة والجبروت.
واعلموا أن العيد حقّاً عيدُ من قَبِل الله صيامَه، ورضي عن قيامه ورفع صالحَ عمله!
ولا تميتوا هذا العيد ولا تفسدوا فرحته بمعصية الله والرسول ولمّا تنفُضوا عنكم غبارَ الصيام وآدابَه.
أحيوا هذا العيد بطاعات الله في أنفسكم وأهليكم، وفي كافة المسلمين، صِلوا أرحامكم، وجددوا الأواصر بينكم، وليعف بعضكم عن بعض، انشروا الرحمة والعفو، والسلام والطعام.. ولا تنسوا إخوانَكم من الدعاء الصالح في شتى بقاع العالم… وتفكّروا فيما آل إليه أمر المسلمين من ضعف وهوان، وخزي وعار، وأكثروا أيها المسلمون من الاستغفار والصلاة والسلام على سيد الأبرار.
اللهم صل وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين…..