ما بين مائدة ومائدة، توزع ابتسامتها الجريحة، لتتقي من خلالها سهام العيون النهمة.. قبل ثلاث سنوات ألقى بها الزمان في هذا المقهى، وهي المثقفة التي لم تشفع لها سني الدراسة والتحصيل، في وطن لم يعد يعترف بنضال أبنائه.. مع كل فنجان قهوة يرشقها أحدهم بنظرة أو بكلمة تحفر في أجراف ذاتها أخاديد من الذلة والحسرة.. هل ينتهي الحلم هنا وسط هذه القذارة الآدمية… هل يضوي الفكر وتضيق مساحات الأمل إلى الحد الذي تصبح فيه اللقمة الحلال ضربا من الخيال… ارتدت بها الذاكرة إلى الزمن الجميل، أيام كانت طالبة في كلية العلوم، كان الحلم أكبر من أن يسعه الخيال، سهرت الليالي عاكفة على دروسها كان عندها بمثابة الاعتكاف في محراب الصلاة، وحين تخاطبها أمها : ارحمي نفسك قليلا، كانت ترد أنها لن تقنع إلا بميزة حسن.. كانت تحسب أن تفوقها وترتيبها المتقدم سوف يفتح لها أبواب الوظائف فتدخل من أيها شاءت. كانت تحلم بالراتب الكبير، والسيارة الأنيقة، والبيت الجميل، والزوج الصالح، والأبناء البررة… لكن أين هي الآن من كل هذا؟!… هل تنتهي الرحلة هنا وسط دخان السجائر وصخب الزبناء، وتحرش السفهاء.. استضاقت من رحلتها على صوت أحدهم مزمجرا (شي قهوة نص نص). أومأت له بابتسامة لتخمد فورته، وانطلقت كالفراشة بقدها النحيل توزع خدماتها على الموائد المتناثرة.. وفي أعماقها يتردد دعاء حزين : يارب إن كنت كتبت علي أن أكون نادلة فامنحني القوة لمواجهة ذئاب البشر، لم تدري لماذا خطر ببالها قول الشاعر وهي تتوجه بفنجان القهوة إلى الزبون المزمجر :
ربِّ لا أسألك عبئا هينا *** ولكن امنحن ظهراً قويا