هذا الدرس من سلسلة منازل الإيمان للأستاذ الدكتور فريد الأنصاري شفاه الله تعالى.
الصدق في الصوم هو أساس اكتساب منزلة الصائمين
الصوم المقصود هنا، هوالصوم الوجداني، لا الصوم المعروف، الذي هوسد منافذ الطعام والشراب أوترك شهوتي البطن والفرج سدا بهيميا، لاتعبديا.
ولا يكون للصوم منزلة إلا إذا كان بشروطه الروحية، ولا يكتسب المؤمن منزلة الصائم، التي تُدْخِلُه من باب الريان في الجنة، الذي لا يدخله إلا الصائمون، إلا إذا صام لله حق.
وهذا الأمر يحتاج فيه المؤمن إلى إعداد قبل حلول رمضان، لأن المنزلة أوالمقام ليسا شيئا عاديا، بل المنزلة حال يتصف بها الصائم، وصفا دائما، ولا يتركها أبدا، وإلا ما سميت منزلة، فالمنزلة تصاحب صاحبها أثناء رمضان وبعده، بل يمكن أن تكتسب قبل رمضان، وإنما جعل ذلك أثناء رمضان لأن في رمضان تتيسر أمور العبادات والعمل والإقبال على الخير، وتسهل فيه على المؤمن مدارج السلوك، والعروج إلى الرحمان الرحيم، ولأن أبواب الجنة تفتح، وأبواب النار تغلق، والشياطين تصفد… وهذه أمور مساعدات تساعد المؤمن لكي يكتسب منازل الصائمين.
اكتساب المنزلة مناعة وأية مناعة
حتى إذا خرج رمضان وفتحت أبواب جهنم، مرة أخرى وأطلق سراح الشياطين تعيث في الأرض فسادا وجد المؤمن في قلبه مايكفيه من الحصانة لمدافعة إبليس ومحاربته والثبات على منزلته، منزلة الصائمين، ولن يستطيع الشيطان بعد ذلك لا هو ولا قبيله أن ينزل بالعبد إلى منزلة أقل من منزلة الصائمين.
صوم السابقين كان صوْم انقطاعٍ عن الناس وارتباط بالله
وأحب أن أشير هاهنا إلى آية هي شرع من قبلنا، وهي قد نسخت فعلا، ولكن نسخ حكمها الشرعي، ولم ينسخ حكمها التربوي..
يعني إذا قيل أن الآية كذا نسخت بكذا لايعني أن هذه الآية لم تعد صالحة إطلاقا ولا يمكن أن يورد الله آية، بل كلمة، بل حرفا، لم يعد معناه صالحا، كل شيء في القرآن قَلّ أو كَثُر، دَقّ أوعظم صالح مفيد، أليس ذلك آياتٍ، والآياتُ علامات في الطريق موصلة إلى الله عز وجل.
أقصد بذلك قوله تعالى: {إنِّي نذَرْتُ للرَّحْمَان صوْمًا فلن أُكلم اليومَ إنسيًّا}.
كان من شأن شريعة من قبلنا، ألا يتكلَّمُوا وهم صائمون، هذا شرع من قبلنا، لا يجوز لمؤمن أن يصوم ولا يتكلم، وقد نذر أحد الصحابة أن يصومَ، ولا يتكلمَ، ولا يستظلَّ، فنهاه عن ذلك وأمره أن يتم صومه ويستظل، لأن لا يُعْبَد اللهُ بشرع قد نُسخ، وهو شرع بني إسرائيل من قبلنا.
وهذا النسخ هومن حيث الرسم فقط، بمعنى شكل التطبيق، والشريعة رسوم وحقائق، وإنما الذي يُنْسَخ من القرآن رُسُومه لا حقائقُه، فحقائق القرآن مطلقة، لا تتعلق بزمان ولا مكان.
أوليس الله الحق جل جلاله هومن تكلم بها، فكيف يكون كلام الله سبحانه منسوخا، لاينسخ مطلقا، ولذلك العلماء الذين قالوا بإبطال النسخ، إنما أشاروا إلى هذا المعنى، أي أشاروا إلى الأبعاد التربوية،
هذه الآية التي ذكرها الله على لسان مريم لاتزال باقية إلى يوم القيامة، كباقي القرآن الكريم، ولكننا في حاجة إلى الحكماء الذين يحققون مناطها وكيفية تطبيقها في الواقع وفي المجتمع.
ألا ترى أن هذه الآية تشرح لك أولاً معنى الصيام، فبالرجوع إلى كتب اللغة تعطينا معنى من معاني الصيام، لكنها لا تعطينا المعنى الجوهريُّ الحقيقيُّ.
كتبُ اللغة تقول الصيام، هو الانقطاع، صُمْنِي، أو صُمْ عَنّي يعني انقطِعْ عني، وصام عن الأمر كَفّ عنه، وأمسك عنه، لكن الحقيقة الشرعية، والصيام تؤخذ من الآية السابقة {إني نذرت للرحمان صوما}.
فهي انقطعت عن الناس إلى الله تعالى، وليست الانقطاع عن شهوتي البطن والفرج، ألا يكون ممكنا أن ينقطع الإنسان عن الأكل والشرب ولا يكون صائما؟!
وهذا يحدث لكثير من الناس بحيث لا يجد وقتا للأكل طوال اليوم، فما ينقصه إذن، الذي ينقصه قَصْدُ التعبد أوالنية.
والنية في العبادة إنما هي إخلاص التوجه إلى الله تعالى، فأنت بصومك تريد أن تصل إلى مكان هو مكانُ الرضي الرباني “الرَّحمان”.
فهذا القول إذن فيه البُعْدَان معًا.
تَرْكُ الدنيا ومن عليها (عدم الكلام).
لله تعالى، {إني نذرت للرحمن صوما}، واللام هنا لام الاختصاص، فهي تخص ربَّها بالذكر والقصد، أي لا التفات إلى ما سواه.
من أرفع التعابير التي تدل على معنى العبادة، هذه الآية، فهي تحدد لك طريق الصوم {إني نذرت للرحمان صوما} وسمَّتْهُ باسمه العلَمِ (الرحمان) لأن عدداً من العلماء يقولون الرحمان ليست صفة لله وحسبُ بل هي قبل ذلك اسم من أسمائه العلمية، لأن أسماء الله الحسنى فيها أسماء هي صفات لله، وفيها ما هو اسم علَمٌ عليه جل جلاله، والأسماء العَلَمِيّة لا تطلق إلا عليه لا يشاركه فيها أحد ولوعلى سبيل النسبية والتقليل، كرحيم، تسمَّى بها بنو آدم، {بالمؤمنين رؤوف رحيم} يقصد سيدنا محمداً .
ويجوز أن يُسَمَّى بكريم … ولكن الرحمن لا تُطلق إلا على الله جل جلاله، ولذلك قالوا إنما هي اسم عَلَمٌ، فأضافت الفعل لهذا العَلَم الاسم الدال على اسمه جل جلاله، {الرحمن على العرش استوى}، {إني نذرت للرحمن صوما} وبما أنها توجهت له سبحانه فما بقي لسواه بعد ذلك شيء.
والصيام في شريعتنا انقاع عن المفاسد كلها فهي أرحبُ وأوسع
{فلَنْ أُكَلِّم اليوم إنْسِيًّا} صحيح انه ليس في شريعتنا ألا نكلم الناس في صيامنا ولكن فيها أن ننقطع عن مفاسد الناس، وترهات الناس، ومشاكل الناس، لأنك تفرغت للرحمن بصوم رمضان, تكلم الناس، ولكن تكلمُهم للرحمن، وتتعامل معهم للرحمن، ولذلك صارت شريعتنا أرْحَب وأبلغ من شريعة من قَبْلَنا، الله تعالى يسر شريعتنا وذلك من قبلناü، كانوا لا يتكلمون لأنهم صائمون ولكننا نحن جعل الله كلامنا مع الناس جزءا من الصيام، ولذلك ينبغي أن يكون كلامك وتجارتك وعملك في رمضان وفي يوم صومك كُلُّ ذلك جزءا لايتجزا من الصيام، أعمالك العادية ترتفع إلى مقام العبادات -إن اتقيت- وأنت تشتغل في عباداتك باعتبار أنك صائم لله تعالى. يَسَّرَ لك أيها المؤمن أن تكلم الناس ولكن بورك لك في الأجر إن جعلت كلامك جزءاً لا يتجزأ من صيامك : أي جعلته لله أي تستعين بالعادة على العبادة . فصارت العادة خادمة للعبادة لا هادمة لها.
فالصيام إذن هوانقطاع ولكنه توجُّهٌ قبل أن يكون انقطاعاً، فليس الصيام تركاً فقط ولكن هذا الترك هونتيجة لا سبب. لماذا لا تأكل؟!… لماذا لا تسب؟! لماذا لا تقاتل؟! >فإن سابك أحد أو قاتلك فقل إني صائم< يعني إنني الآن مشغول مع الله في عبادته.
هذه اّللآت الرافضة هي نتيجةٌ (لنعم واحِدَة) وهي التي أجبتَ لها ربك إذ ناداك ولبَّيْتَه إذ قال لك : {يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام} فاستجبتَ لهذه الفريضة، واستجبت لهذا الكتاب، استجبت لها سَيْرًا على منوال السابقين {كما كُتِبَ على الذين من قبلكم}.
“كما” فيها تشبيه كامل مطابق في المعنى وليس في رَسْمِ الحكم بل في المعنى {لعلكم تتقون} باق إذن في اكتساب صفة التقوى.
فالحكمة من الصيام سابقا ولاحقا إنما هي التقوى فمن صام ولم يحققها فقد صام بدنه ولم تصم نفسه.
العبادات شُرعت للتزكية
وإنما شرعت العبادات لتزكية الأنفس لا أن تُزَكَّى بها الأبدان {ونفس وما سوَّاها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها}.
فتزكيةُ النفس تربيتُها وتنميتُها وتهذيبُها وتشذيبُها تمامًا كالبستاني مع الشجرة إذ يقطع كُلّ غصن خرج عن الطريق، فالصيام يشذِّبُ النفس ويقطعُ نوازع النفس الشريرة ويهذبُها بشكلٍ يجعلُها مستقيمة وذلك جزء من قوله تعالى: {اهْدِنا الصّراط المسْتَقيم} فالصيام جزء إذن من الطريق الواضح لتعرف هل أنت على الطريق المستقيم لتصل…
الصيام لله نور وهدي وتبصرة
الصيام إذن منزلةٌ ومقامٌ إذا استطاع العبد أن ينقطع فيه إلى الله فلن يكون إلا لله، وبالله، وإلاّ في الله، وإلاّ مع الله.
إذا استطاع أن يحقق هذا المعنى فقد صار من الـمُبْصِرين الذين يبصرون الآيات، فيرى آيات رمضان، ويرى أنوار رمضان، وكل أية لها أنوار تهدي الناس، وتهدي القلوب، وتُبْصِّر البصائر، فترى الحقائق كما هيّ حقائق مايقع للناس، وما يقع لك، وما يقع بين العباد، كل ذلك تراه بعين الحقائق القرآنية، لأن النفس إذا صفَتْ وانكشفت حُجُبُها وأسرارُها رأتْ ما لم يرَهُ غَيْرُها.
وهذا شيء عجيب حقا لأن رمضان أوالصيام عمل نادر من العبادات، وليس كجميع العبادات، الصيام عمليَّةٌ قوية وسريعة وعميقة لأنها تغسِلُ الظَّاهر والباطن، تطهِّرُ النفس والبدن، حتى إذا انكشفت الغشاوة عن الأبصار رأتْ ما لم تره من قبل.
فإذا عدت إلى كتاب الله بعد ذلك تحسب وكأنك لم تَقْرَأْهُ أبدا.ماذا وقع؟!
انكشفت لك الحقائقُ ليس بمعنى الغيب المطلق، وليس بقَوْل بعض الناس، أبدا، ولكنها حقائق ظاهرة ناطقة بالآيات.
ولكن المشكل أن العين حين تُدْمِن النظر إلى الظلمات يصعب عليها أن تتفتَّح على النور، وكذلك الذي دأب على استنشاق الرائحة الكريهة للذنوب، ذنوب النفس، كل ذلك محجوب عن رؤية الحقيقة.
فليس المشكل في القرآن ولكن المشكل في العَيْن الضعيفة، لأن الذنوب تكبل الاعين بالأوساخ والقاذورات حتى لا ترى شيئا، ولكن لـمَّا تتُبْ تعُد ترى النور شيئا فشيئا كما قال ابن عباس ] >الربَّانِيُّ من يُرَبِّي بصِغار العلم قبل كباره< أي من يُرَبِّي الناس بصغار العلم قبل كباره، ويربي نفسه أيضا بنفس الطريقة.
ولهذا أيها المؤمن إنك تحتاج إلى أن تبصر حقائق القرآن شيئا فشيئا، فترى نور القرآن، وذلك بقطْع الصلة أولا بالظُّلُمَات والانقطاع عنها تماما، وآنذاكتدخل باب النور دخولا نهائيا عن طريق التوبة النصوح فتحُلُّ عينيْك شيْئًا فشيئًا، فتسير على قدر نظرك، كلما اتسعت دائرةُ العين ظهرتْ لك المسافة الواسعة طولا وعرضا، وتبيَّنَ لك موقع قدَمِك من الصراط، وخطوتَ نحوه بأمان وسلام.
الصيام الحق يُغيِّر الأنفس ويجعلها ترى حقائق القرآن
الصيام يجعلك ترى هذه الحقائق وتكسب هذه الصفات ولذلك إذا أبْصَرْت بدَتْ لك هذه الحقائق بطبيعتها {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } فارتباط القرآن برمضان ليس ارتباطا زمنيا فقط. ولكنه ارتباط لعدة فوائد منها :
رؤية الحقائق من خلال قصص السابقين.
الله تعالى لا يحكي شيئا إلا لفائدة وكل قصص القرآن قصص السابقين واللآحقين والغابرين حُكِيَ لنا، وقُصَّ لَنَا ليفيدنا في المجال التربوي ومجال السير إلى الله عز وجل، فلا يقص الله القَصص عبثا، بل يقص بالحق سبحانه والحق مطلق وصالح لكل الأوقات، ومن ذلك هذه الآيات {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} لنَعْرِف أن برمضان تَسْتَطيع أن تَرَى القرآن بشكل غير عاديٍّ، إن كنت تستفيد من صيامك.
فترى الآيات لامعاتٍ ظاهراتٍ بيِّنات كما قال الله تعالى في الآية نفسها {وبيِّنات من الهدى}.
فلا تردُّدَ ولاشَكّ في الطريق، بل الطريقُ واضحة بيِّنة {بينات من الهدى والفرقان}.
فهو فرقانٌ يفرِّقُ الله به بين الحق والباطل، ويفرق به بينك وبين ماضيك السيئ وبينك وبين غيرك، وبيك وبين الأفكار المظلمة، حتى تتصوّر أنك لست أنت أْنَت. البارحة كنتَ ترَى، واليوم ترى بشكل مغاير تماما بسبب نظرك الجديد للآيات.
إذن رمضان، وصيام رمضان هو سبب تغيير النظرة للقرآن، ولذلك كان الصيام والقرآن مرتبطين إرتباط تلازم لتغيُّر الرؤية للنفس، والكون، والحياة الدنيوية والأخروية، والحق، والباطل…
أعدها للنشر : ذ. أحمد بودبزة