قال تعالى : {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس}(البقرة : 185).
وقال عز من قائل : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 183).
تتضمن الآيتين أعلاه إشارتين هامتين مما من أجله شرع الحق سبحانه فريضة الصيام هما : الهدى، والتقوى، وكل كلمة من بين ها تين الكلمتين (الهدى) و(التقوى) تحمل دلالة عظيمة عامة، لاباعتبار معناها فقط، لأن الهدى إذا انعدم حل محله الضلال، والتقوى إذا انعدمت حل محلها الفجور والفساد، وعليه فالكلمتان عظيمتان لا بهذا الإعتبار فحسب، ولكن باعتبار نوع المخاطبين بهما وعدد أفرادهم وما يمكن أن يترتب عن تطبيق هذا المفهوم (الهدى) و ذاك (التقوى) لصالح الإنسان على وجه الأرض، وعليه فشهر رمضان شهر متميز بين الشهور، لأنه ظرف زمان لمظروف (هو القرآن الذي أنزل فيه) لمزية فريدة هي (هدى للناس) كل الناس، وعليه يمكن القول بأن أول ما ينبغي استفادته من رمضان هو تعهد هذا (القرآن) الذي أنزل في شهر رمضان هدى للناس، تعهده : بحفظه وتعليمه للناشئة، وتعهده بتلاوته وتدبره، وتعهده بالسعي إلى تطبيق أحكامه، وهذا التعهد إن حصل هو ضامن عدم الإرتكاس(1) في حمأة(2) الضلال، وهو ما ينبغي أن يستفيده المسلمون من رمضان أفراداً وأسراً، وجمعيات وجماعات وأحزابا وكل التنظيمات الاجتماعية في البلد المسلم. ومما روي أن رسول الله قال : >إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم قيل : فما النجاة منها يا رسول الله؟ قال كتاب الله تعالى : فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه تجبُّراً قصمَهُ(3) الله تعالى، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله تعالى، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزِيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، من علِم علمه سبق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل ومن عصم به فقد هُدي إلى صراط مستقيم<(عن علي ] وخرجه الترمذي).
تلك بعض مزايا وفوائد القرآن، الذي أنزل في شهر رمضان هدى للناس، وحتى تتبين بعض معالم هذا الهدى نقف وقفة قصيرة مع بعض المفاهيم الواردة في هذه الحديث الشريف وهو يصف القرآن الكريم هي :
1- ستكون فتن، : ولا شك أن الأمة الاسلامية مفتونة اليوم وبؤر التوتر التي تعيشها عبر العالم أكبر دليل على هذا الافتتان.
2- من تركه من جبار قصمه الله، وقصمه(3) تأتي بمعنى الانتكاس في العمل بمعنى أن الإنسان المقصوم يعود من حيث أتى دون أن يصل إلى هدفه، وتأتي بمعنى الانكسار. أو الهلاك، وأمثلة هذه المعاني اللغوية بادية وواضحة في حياة الأمة المسلمة، فهي مقصومة بمعنى مهلوكة، ومنكسرة بمعنى مشتتة الأوصال، وما تبذ له من مجهودات للخروج من دائرة الانحطاط والتخلف لا تأتي أكلها بالشكل المطلوب وهذا ما يطابق الانتكاس، في المعجم الوسيط >قصَمَ فلانٌ يقصِم قصْماً : رجع من حيث أتى ولم يتمّم مقصده (شأن مؤتمرات الأمة العربية الإسلامية)، وقصَم الشيءَ : كسره كسراً فيه انفصال (والأمة مفصولة عن هويتها الحضارية الاسلامية) وأهلكه، وفي التنزيل العزيز {وكم قصَمْنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين}(الأنبياء : 11)، والأمة مهلوكة في كرامتها، من لدن الأعداء.
3- ولا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، لقد زاغت الأهواء وتشعبت الآراء ولا تكاد الأمة يجتمع لها رأى على مسألة، أو قضية مما هو في صالح العباد، وإصلاح البلاد وأي زيغ للأهواء، وتشتت للآراء، أكثر من اختلاف الإخوة وقنابل العدو تصب على رؤوسهم صباح مساء، صيفا وشتاء في فلسطين، إنه والله الضلال بعينه {فماذا بعد الحق إلا الضلال}(يونس : 32).
والآية الثانية تخاطب المؤمنين خطاب تكليف ومسؤولية لأن الأمر فيه التعود على كبح جماح الشهوة، فالمسألة فيها مكابدة ومشقة، ولذا بني الفعل (كتب) للمَفْعول في هذه المكتوبات الثلاثة (ويعني : كتب عليكم القصاص 178، وكتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية 180) وحدف الفاعل للعلم به، إذ هو الله تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف.. وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل كما قال تعالى : {كَتَب ربكم على نفسه الرّحمة}(الأنعام : 54) وقوله {كَتَب الله لأغلبَنّ أنا ورسلي}(المجادلة : 21)(4).
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية : >… كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه، وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه قال : >بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإىتاء الزكاة، وصوم رمضان والحج<(رواه ابن عمر)<(5).
فصوم رمضان ركن من أركان الإسلام الخمسة >وركن الشيء لغةً جا نبه الأقوى قال تعالى : {أو آوي إلى ركن شديد}(هود : 80)، وفي الاصطلاح : ركن الشيء مالا وجود لذلك الشيء إلا به<(6). ولعل صوم رمضان من أهم أركان الإسلام بعد النطق بالشهادتين، لأنه على الرغم من أنه ركن مستقل بذاته يتضمن جوانب من الأركان الأخرى بشكل من الأشكال، ففي رمضان يحافظ المومنون على الصلاة بشكل أفضل، بل يكثرون من النوافل، وفي ذلك مناسبة للاكثار من ترديد الشهادتين أيضا، والعمرة في رمضان غيرها فيما سواه، ويقاسم الصيام الزكاة في بعض الكفارات قال تعالى : {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}(المائدة : 89).
والصيام عبادة يربي بها الحق سبحانه عباده عبر تاريخ الانسانية، ولذا قال : {كما كتب على الذين من قبلكم}.
والعلة التي من أجلها كُتب الصيام، وهي بيت القصيد كما يقال : >هي التقوى< ولذا قال : {لعلكم تتقون}، والتقوى وسام ربّاني ينبغي أن يحرص المؤمن على الحصول عليه من صيامه ويحافظ عليه، وهو أمر ممكن إذا صدقت نية الصائم وقويت عزيمته، ولذا استعمل الحق سبحانه في هذه الآية >حرف (لعل) الذي يفيد التوقع وهو أي التوقع أقوى من الطمع<(7). وهذا ما يعني أن خصْلة(8) التقوى متوقع حصولها للصائم بإذن ا لله وهي خلق حسن يمثل إحدى شعب الإيمان. ولذا على المومن أن يواضب على عبادة الصيام التي اعطته هذه المنزلة الرفيعة عند ربه وبين الناس، وذلك بالمحافظة على صوم النوافل خارج الفريضة التي هي صوم رمضان وذلك للمحافظة على هذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى. وهي منزلة المعية : قال الله تعالى : {إنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}(النحل : 128). والتقوى تمنح صاحبها حصانة من الوقوع في حمأة المعاصي، في الدنيا وتضمن له المقام السعيد في الآخرة، قال تعالى : {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}(الأعراف : 201)، وقال : {ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون}(يوسف : 109)، إنها الدار التي ينبغي أن يحسب لها العاقل ألف حساب {أفلا تعقلون}!.
ولأهمية التقوى في صون كرامة الإنسان، إنسان الأمانة الربانية يوصينا بها الرسول إذ يقول : >اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن<(رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح) هذه خصال ثلاثة : التقوى واحدة منها >اتق الله حيثما كنت< أي في الخلوة، والجلوة، والشدة، والرخاء، أو في أي زمان أو مكان كنت فيه.. وحسبك لكي تنفذ هذا أن تستحضر في قلبك أن الله تعالى مطلع عليك في جميع أحوالك… وهذا يستلزم أن يكون هناك حياء من الله تعالى (والحياء شعبة من شعب الإيمان) كما جاء في وصية سيدنا علي كرم الله وجهه يقول فيها لولده الحسن عليه رضوان الله :
يا بني استحي من ثلاث : استحي من مطالعة الله إياك وأنت مقيم على ما يكره، واستحي من الحفظة الكرام الكاتبين، واستحي من صالح المؤمنين.
ويقول وهب مشيرا إلى هذا : الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وريشه الحياء، ورأس ماله العفة… قال ابن لقمام لأبيه ذات يوم : أي الخصال خير؟ قال : الدين، قال : فإن كانت اثنتين : قال : الدين والمال، قال : فإن كانت ثلاثا؟ قال : الدين والمال والحياء، قال فإن كانت أربعا قال : فالثلاثة (يعني بالثلاثة، الدين والمال والحياء) قال : فإن كانت خمساً، قال : فالأربعة والسخاء، قال فإن كانت ستا؟ قال يابني… إذا اجتمعت فيه الخمس خصال (يعني الدين والمال، والحياء، وحسن الخلق، والسخاء) فهو تقي نقي ولله ولى، ومن الشيطان بريء<(9).
تلك هي التقوى علة فريضة الصيام التي قال فيها الحق سبحانه {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
فهل تتق الأمة وتتوب ، بعد أداء فريضة الصيام، هل يَسْتُر المسلمون إيمانهم بلباس التقوى والحياء؟ وهل يقومونه بالعفة؟.
ما نصيب مفَاهيم القرآن الذي أنزل في شهر رمضان في حياة الأمة أفراداً وجماعات : كالصدق والأمانة والعفة، و الحياء.. الخ
والأمة مدعوة إلى التوبة النصوح كل في مجال مسؤوليته، قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم}(التحريم : 6). هذا بالنسبة لتصرفات العبد بينه وبين ربه فيما يرتكبه من آثام، التي يحاسب عليها يوم القيامة أما بالنسبة لحال الأمة ككل فينبغي أن تتوب اقتصاديا، وتتوب اجتماعيا، وتتوب سياسيا، وتتوب “أخلاقيا، حتى تستقيم لها الحياة وتنعم بالأمن الشامل لكل الأفراد، في شتى نواحي الحياة نتيجة توبتها وتقواها ألم يقل الحق سبحانه : {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}(الأعراف : 56).
اللهم اقبل توبتنا، واجعلنا من المتقين آمين.
—-
1- ركست الشيء ركساً رددت أوله على آخره وهذا بمعنى كأن الضال يسمى مقلوبا على رأسه.
2- الحمأة : الطين الأسود المنتن، وهذا يعني أن الضلال مثله معنويا.
3- يأتي شر منها فيما بعد.
4- البحر المحيط 177/2.
5- الجامع لأحكام القرآن 272/2.
6- الكليات : 481.
7- الكليات 468- 469.
8- الخصلة خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رذيلة، وهو هنا فضيلة.
9- من وصايا الرسول 82/2- 83.
زود كم الله بالتقوى والمغفرة. جزاكم الله خيرا