تأطير عام
إن الحديث عن باكستان حديث عن منطقة قديمة الوجود حضاريا، دولة حديثة النشأة سياسيا، قوية الحضور في الأحداث الدولية المعاصرة، ارتبط وجودها ككيان مستقل في خصوصياته الدينية والثقافية الإسلامية التي ظلت تميزه عن الإمبراطورية الهندية، وبسبب هذا التميز انتقلت باكستان إلى تأسيس ذاتها كدولة مسلمة مستقلة عن الاتحاد الهندي سنة 1947 على يد “محمد علي جناح” الملقب بالقائد الأعظم وهو مؤسس دولة باكستان مع دعاة آخرين مثل الشاعر الكبير “محمد إقبال” الذي توفي سنة (1357هـ= 1938م) ولما ير استقلال مسلمي باكستان عن شبه القارة الهندية ذات الأغلبية الهندوسية.
ومنذ استقلالها وهي تخوض معارك قوية وساخنة من أجل إثبات ذاتها وتأسيس قوة وازنة في محيطها الإقليمي، وقد كلفها ذلك الدخول في حروب طاحنة مع الجارة الهند كانت لها سلبيات أهمها نجاح الهند والغرب في اقتطاع منطقة بانغلادش ومنحها الاستقلال عن باكستان سنة 1971، وكانت لها إيجابيات أهمها نجاح باكستان من جهتها في مساعدة مسلمي كشمير في الاستقلال عن الهند، وفي تكوين جيش قوي وبناء القدرات العسكرية النووية التي أهلتها لأن تصبح قوة إقليمية ودولية.
والمنعطف الآخر في تاريخ باكستان هو التدخل الروسي في أفغانستان حيث اختارت باكستان مساندة المقاومة الأفغانية باعتبار أفغانستان لدى الباكستانيين عمقا استراتيجيا. وانتهى هذا التعاون إلى تعزيز الوجود الديني في المنطقة، وبعد تنامي حركة طالبان تحت الرعاية الباكستانية أصبحت باكستان قوة إقليمية مؤثرة.
غير أن المنعطف الآخر والخطير هو نتائج أحداث 11 شتنبر 2001 وبداية الحملة الأمريكية العلنية والعملية على طالبان والقاعدة وحلفائهما وأبرز هؤلاء الحلفاء باكستان حيث شنت الولايات المتحدة الحرب على أفغانستان وضغطت بكل وسائلها على باكستان للدخول معها في ما سمتها الإدارة الأمريكية ب”الحرب على الإرهاب” (أي القاعدة وطالبان) مما أجبر الحكومة والجيش والمخابرات الباكستانية على التخلي الفوري عن استراتيجيتها في أفغانستان أولا وفي كشمير ثانيا، وهو الأمر الذي عجل بسقوط طالبان سريعا.
ويأتي المنعطف الأخير بعد فشل الولايات المتحدة وحلفائها في القضاء على الإرهاب في أفغانستان والعراق، حيث ظهر أن طالبان والقاعدة استعادتا قوتهما وأعادا بناء ذاتهما ونقلا معاركهما إلى العراق وباكستان نفسها حيث وجدت مساندة قوية من الشعب الباكستاني خاصة مناطق وزيرستان والقبائل المتاخمة للحدود الأفغانية مما جعل الإدارة الأمريكية تنظر بعين الريبة إلى المسؤولين الباكستانيين، ومع تزايد نمو وتكاثر عناصر القاعدة وطالبان وتزايد الدعم والتأييد الشعبي ظهر داخل باكستان جناح طالبان باكستان وأمام عجز السلطات العسكرية والمخابرات الباكستانية في القضاء على هذا الزحف الجديد تولت الولايات المتحدة وحلفاؤها قيادة الهجوم على الأراضي الباكستانية المتهمة بإيواء عناصر القاعدة واحتوائها والتعاطف معها غير مكترثة باحترام سيادة باكستان على أراضيها ولا بكونها حليفا وصديقا لها في الحرب على الإرهاب. وأمام هذا الوضع تقف باكستان على هديرأزمة سياسية دولية وداخلية معدة لأن تعصف بهذا البلد المسلم وأمثاله.
باكستان قوة دولية وإقليمية
لعل العوامل التي جعلت باكستان تصل إلى مستوى التوازن الدولي إقليميا وعالميا هو المعطيات التالية:
- الطاقة السكانية الباكستانية: حيث يصل تعداد السكان إلى حوالي 170مليون نسمة مما يجعل منها قوة بشرية ويداً عاملة ماهرة وخبيرة، وسوقا اقتصادية مهمة في التعامل مع الغرب الذي يبحث عن الأسواق الخارجية ويراهن على ارتفاع الكثافة السكانية كعامل مهم لنجاح استثماراته.
- الثروة المعدنية الهائلة: تعتبر باكستان بلدا غنيا بثرواته خاصة الثروة المعدنية وبخاصة منطقة البنجاب وهضبة بلوشستان، ويستخرج الحديد والكروم والكبريت والملح والرصاص والمنجنيز وقد عثر على البترول والغاز الطبيعي. وكذلك على الفحم الحجري في تلال الملح في الشمال
كما تمتلك قدرات صناعية كبيرة تتمثل في صناعة المنسوجات القطنية والسكر والزيوت النباتية، والمواد الكيماوية، من بنسلين وكلور وحمض الكبريت، وهناك الأسمنت، والورق والدباغة والكبريت، كما توجد صناعة أُطُر السيارات وعربات السكك الحديدية.إضافة إلى مؤهلاتها الفلاحية الزراعية والحيوانية,
- الموقع الاستراتيجي: حيث تقع باكستان على تخوم الصين الغربية وجنوب روسيا مما يجعل منها محل أطماع الدول الرأسمالية لتطويق الصين غربا وروسيا جنوبا، ومنطقة استراتيجية للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب (أفغانستان وإيران غربا) كما يمكن أن تكون معبرا مهما لبترول بحر قزوين والجمهوريات الإسلامية شمالا خاصة أن من أهم استراتيجيات الولايات المتحدة في هذا المجال تنويع مصادر الطاقة وتأمينها وتفويتها على خصومها الإيديولوجيين في المنطقة (روسيا وإيران والصين) وخصومها المنافسين لها اقتصاديا وسياسيا (دول الاتحاد الأوروبي واليابان).
- امتلاك القوة النووية : رغم أن باكستان ظلت منذ استقلالها حليفا استراتيجيا للغرب خاصة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية إلا أن امتلاكها للسلاح النووي وهي بلد مسلم جعل الدول الغربية والكيان الصهيوني يتوجسون خيفة من توسع هذه القدرة وانتقالها إلى تهديد اليهود وحلفائهم، ومما زاد من خطورة امتلاك باكستان للسلاح النووي هو الخوف من سيطرة الحركات الإسلامية على هذا السلاح مما سينهي أسطورة الحرب على الإرهاب لصالح “الإرهابيين” (المسلمين)، كما أن الذي زاد من تخوف الغرب هو إمكان قيام باكستان بتهريب الأسرار النووية لبلدان تعتبر محور الشر في السياسة الأمريكية (العراق وليبيا سابقا وإيران وكوريا وسوريا..). كل هذه العوامل تجعل باكستان محط اهتمام دولي خطير للغاية تنوعت أساليبه في التعامل مع هذا البلد بعزل سياسييه عن الشعب واحتواء الجيش وقيادة الانقلابات واختراق المخابرات وافتعال الحروب مع الهند والاتهام بتسريب الأسرار النووية ومساندة الإرهاب والفساد والدكتاتورية… والقائمة طويلة وبعضها يناقض البعض!!
- تنامي المد الإسلامي : تعتبر باكستان أكبر الدول المسلمة من حيث الكثافة السكانية ومن حيث تمسك أهاليها بالإسلام، ومن حيث انتشار الإسلام الذي تصنفه أمريكا ضمن الإرهاب الخطير -وإن كان في ميزانها كل مسلم هو إرهابي خطير- وإذا كان نمو الإسلام قوة ذاتية وحصانة ثقافية ومناعة قومية لباكستان إلا أن الأمر انعكس سلبا على باكستان في الواقع الحالي وأصبح الغرب ينظر لباكستان بوصفها مفتاحا مهما للقضاء على التوجهات الإسلامية إذا تم التركيز عليها واستجابت للضغوطات في تغيير مناهج التعليم الديني وشن الحرب ضد الحركات الإسلامية و”الإصلاح السياسي”: (الديمقراطية، دعم الأحزاب العلمانية، إقصاء الأحزاب الإسلامية..!!) والانفتاح الثقافي والإعلامي على المنظومة الغربية لتغيير العقول وصياغة أجيال متشبعة بالثقافة والفكر الغربيين…
مستقبل باكستان
بعد استقالة مشرف تحت ضغط المعارضة المدعومة، وانتقال السلطة إلى حزب الشعب العلماني المتقرب للولايات المتحدة الأمريكية، ومع اتخاذ هذه الأخيرة القرار الانفرادي بضرب المدنيين داخل الأرضي الباكستانية من غير استشارة مع الحكومة والجيش، وبعد تهجم الولايات المتحدة على المخابرات الباكستانية باتهامها طالبان والتستر على نشاطاتها وقياداتها وعدم التعاون معها أصبحت العلاقة بين البلدين تزداد سوءا، ويدفع في أفق التصعيد الذي يُظهر أن باكستان ستقع فريسة المخطط الصهيو-أمريكي وهو يقوم على ثلاثة سيناريوهات :
الأول: تفكيك باكستان الدولة القوية الموحدة إلى دويلات صغرى وكانتونات عرقية صغيرة، وذلك بعزل الحكومة وإظهارها بمظهر الفاشل، ودعم استقلال القبائل والأعراق (إقليم بلوشستان الغني بالغاز والنفط وبقية الثروات المعدنية، إقليم السند، وإقليم سرحد، وإقليم البنجاب…) وفي هذا ما فيه من إحياء للنعرات والزج بالبلاد في حرب أهلية ليس لها من هدف إلا التخلص من باكستان المسلمة شر تخلص، وهذه الحقيقة كشفت عنها مصادر متعددة فقد نشرت صحيفة راند الشهيرة في بداية هذا القرن دراسة بعنوان آسيا عام 2025 تضمنت بأن خارطة العالم سوف تخلو من شيء اسمه باكستان بحلول عام2012 (ينظر مجلة البلاغ ع 1781فبراير 2008)، وهذه الخطة هي جزء من الخطة الشاملة التي تسعى الولايات تحقيقها خدمة لأهداف الكيان الصهيوني في أفغانستان وإيران والعراق ولبنان وسوريا ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد.
الثاني : القضاء على خطر التوجهات الإسلامية أو إضعافه عبر تفتيت البلاد وتجزئتها إلى كيانات صغيرة علمانية مهيمنة ومدعومة، إذ كلما كان الكيان صغيرا كلما كان ضعيفا وغير قادر على حماية نفسه وتزداد حاجته إلى التبعية فضلا عن أن ترسيم الحدود تبقى غير واضحة ولا قارة مما يغرق تلك الكانتونات الصغرى في الحروب ونزاعات الحدود ينهك قوتها ويضعف قدراتها على النهوض.
الثالث الانقضاض على المشروع النووي الباكستاني والسيطرة على الترسانة النووية الباكستانية بذريعة إمكان وقوعها في أيدي المتشددين الإسلاميين بإعداد قوات خاصة للتدخل والسيطرة وزرع الألغام في انتظار نقلها إلى نيو مكسيكو في مخازن سرية أو في أماكن محصنة وتحت المراقبة داخل باكستان. وكل هذه السيناريوهات محتملة لأنها قادرة كلها على إجهاض حلم المسلمين في باكستان وغيرها من البلدان المسلمة الأخرى.
وفي نهاية المطاف يمكن القول إن المخططات الصهيونية والأمريكية جارية على قدم وساق لإجهاض القوى الإسلامية الناشئة ودفع المنطقة إلى شفير من النار والطائفية والضعف والهوان،للتمكين لمشروع دولة إسرائيل الكبرى، غير أنه لا ينبغي أن نغفل أن الصحوة الإسلامية سائرة في طريقها نحو النصر الموعودة به من رب العالمين، وأن على المسلمين أن يعوا واجبهم الديني لإنقاذ البشرية، كما أنه لم يعد بالإمكان قيام أي نظام دولي جديد ليس فيه للمسلمين اعتبار في المستقبل القريب، فالمستقبل يبشر بقرب نهاية عصر الإمبراطورية الأمريكية وزوال إسرائيل، لذلك وجب الإعداد للمستقبل بما يؤهل الأمة المسلمة للشهود الحضاري.