إن من أكبر المشكلات بالنسبة للإنسان المعاصر، وذلك على الرغم مما حققه من تقدم ورفاهية مادية وتطور حضاري ملحوظ، هي مشكلة شعوره بالتوتر النفسي والانحباس الروحي، الذي هشّم ما تبقى من إطار المرآة التي ينظر إليها ليرى حقيقة ذاته وكيانه؛ ولعل أبلغ آية قرآنية تلخص هذه الدائرة المغلقة من الرؤية، والقرآن الكريم كله آيات بينات، هي قول اللطيف الخبير، جل جلاله : {ومن أعرض عن ذكري، فإن له معيشة ضنكاً}(طه : 123).
وبهذا يكون حال… الشعور بالتوتر والانحباس الروحي نتيجة طبيعية لإحدى السنن الإلهية التي بها ينتظم أمر هذا الكون، بما فيه الإنسان؛ والمقصود بذلك ابتعاد هذا الأخير عن حقيقة الفطرة التي فطر الناس عليها أول مرة ناهيك عن عدم معرفته العميقة بأسرار التكريم والتفضيل والتسخير، وما يدخل في محبة الله عز وجل لهذا المخلوق الذي بث فيه من روحه وأسجد له الملائكة تكريما وتقديراً، بل أهّلَه بالعلم الضروري لأداء وظيفة الخلافة.
وقدْ لا نُغالي إن قلنا : إن هذه المشكلة أصلها في طبيعة الفكر الذي به يتعامل الإنسان مع مختلف الأمور، إذ بما أنه مخلوق عاقل، فإن جزءاً كبيراً من استخدامه للعقل يتأسس على الفهم الذاتي للحرية والقدرة على الاجتهاد والإبداع والتطوير، بخلاف المخلوقات الأخرى التي جُبلت على أداء مهمات محددة؛ وهو في هذا الاجتهاد والإبداع يحتاج إلى ميزان يقيس به درجة الصلاح والفساد، والخير والشر؛ ميزان لا يمكن أن ينتجه بذاته مهما أوتي من قوة عقلية على إبداع منهج التقييم والتقويم، بقدرما يحتاج إلى من هو أدرى بحاله وحال عقله المفكر.
ولا نرى -ويوافقنا الكثيرون هذه الرؤية- منهجا قادراً على ضبط عقل الانسان وفكره، حتى يكون موافقا لفطرته، غير المنهج الرباني؛ ولذلك فكلما أعرض الإنسان عن هذا المنهاج الواحد والشمولي زاغت قدماه عن الطريق فتكون النتيجة {فإن له معيشة ضنكا}، ولعل هذا هو حال جميع المجتمعات الإنسانية منذ القديم وإلى اليوم، إذ يخبرنا التاريخ الماضي وحال الراهن منها، أنه عمتها معيشة الضنك، وذلك على الرغم من بلوغ العديد منها قمة القوة الحضارية والمادية.
من هنا يتبين أن مصبية هذا الإنسان في عقله، كما أن بلوغه درجة الحياة الطيبة يكون بعقله كذلك، إن هو أحسن الإبصار الروحي لطبيعة الخلق ومقاصد العبودية؛ ولذلك ركزت جميع الرسالات السماوية عبر التاريخ على تصحيح الفهم وتقويم المنهج وإعادة مؤشر بوصلة الطريق إلى مكانه كلما زاغ عقل الإنسان وتاه فكره، أو لنقل طغى، لإحساسه بالتفرد والتحرر والقدرة على الإبداع والتحكم؛ والنتيجة أنه كلما تضبب مفهوم الحرية في فكر الإنسان اعوج سلوكه وخرج عن آدميته وفطرته، فيحرم -بسبب ذلك- الخير الكثير، وعلى رأسه : معية الله جل جلاله له، وحفظه له، وهدايته حينما يزيغ العقل عن الخط المستقيم.
يتأسس على ما سلف التأكيد على أن مدار الأمر كله على الاستقامة، التي لا تخرج عن الدائرة الرحبة لمفهوم الفطرة الآدمية فاستقامة الإنسان هي أن لا يخرج عن الفطرة، ولا قدرة له على ذلك دون مقدمات أسـاسية، وعلى رأسها :
الفهم العميق لحقيقة العبودية لله جل جلاله، وأثر تحقيقها على أرض الواقع، بعد تحقيقها في النفس، في تخليص الإنسان من كل العبوديات، وفي مقدمتها عبودية الذات؛ وجماع ذلك تأكيد أمر الإخلاص لله سبحانه وتعالى في السر والعلانية : {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(الأنعام : 162- 163).
من هنا يتضح جليّاً أن الإخلاص حصن للفكر والعقل من كل زيغ عن طريق الصواب، وشذوذ عن خصال الفطرة الصحيحة؛ فبه يتخلص الإنسان من حُبِّ الذات ا لذي هو أكبر سبب في تدمير الكثير من الحضارات وإبادة العديد من الشعوب، وقيام العديد من الحروب والفتن، بل وأكل أموال الناس بالباطل.
يستفاد مما سلف تأكيد حالة التيه والشعور بالفراغ التي يعيشها قطاع عريض من الناس، ناهيك عن الشعور بالعظمة والكبرياء والخروج عن حدود الفطرة التي بها يستقيم عود العقل وبنيان الفكر، ومادام المرء يعيش حالة الصعلكة الفكرية، فإنه سيظل يعيث في الأرض فساداً وسيظل عقلُه مرجعَه في كل كبيرة وصغيرة، به يقيس القبح والحسن، والصلاح والفساد، والخير والشر؛ وأنّى له أن يكون على الفطرة مادام على هذا المنوال والاختيار؟!
إذ لو كان العقل قادراً على منح الانسان الخير و السعادة في الحياة الدنيا على الأقل، ما كان الانسان بحاجة إلى من يهديه ويعلمه ويرشده ويزكيه؛ لأنه دون اتخاذ منهاج الله تعالى سراجا منيراً، سيظل في ضلال مبين : {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(الجمعة : 2).
وقد يقول قائل، وله الحق في دعواه مادام العقل أعدل قسمة بين الناس كما يقال : إن الحضارات المتعاقبة تشهد على صحة العقل، وقدرة الفكر على الإبداع وصناعة التاريخ المتطور، لعل من أبرزها جعله العالم أصغر من قرية، وإبحاره في الفضاء الرحب، ومعرفته بالعديد من الفنون والصناعات التي أثمرت عالم التقانة المعلوماتية الدقيقة، والكثير من الفتوحات العلمية التي يمثل اكتشاف الخريطة الهندسية لعالم الجينات الوراثية أبلغ صورة على قدرة العقل، خارج سياق النبوات والكتب السماوية، على بلوغ أهداف علمية ما كان للمرء أن يصل إليها لولا ثقته في العقل والفكر الحر.
نحن لا ننكر حقيقة ما وصل إليه الإنسان من منجزات، بل ويمكن أن نقول : إن هذا المخلوق المفكر العاقل لم يستخدم من قدراته وطاقاته إلا الشيء القليل، وكل ذلك راجع بطبيعة الحال إلى ما يتوفر عليه عقله من شحنات فكرية تمكنه من الإبداع والاجتهاد والاكتشاف المستمر، لكن السؤال الذي يراود المرء وهو يقلب أوراق التاريخ، ويقيم المنجزات الحضارية، هو : هل استطاع هذا الإنسان العاقل المفكر أن ينتج حضارة آدمية تتجاوز حدود المتعة الطينية والشهوات المادية؟ أو بعبارة أخرى : هل استطاع العقل البشري المتقدم بفتوحاته ومنجزاته المادية الحفاظ على الفطرة الصحيحة التي تجعل من الإنسان مُكرّماً ومفضلاً ويستحق -فعلا- أن يُسَخَّرَ له ما في السموات والأرض؟
إن واقع الحال يخبرنا بعكس ذلك، وتلك إحدى مصائب العقل الحر، البعيد عن مدار الهداية الربانية، العقل الذي دفع بأصحابه إلى اتخاذه إلها، لأنهم لا يعترفون -أصلاً- بوجود الخالق، ولذلك حينما يصاب المرء بداء الجهل وداء اتباع الهوى، تكون الكارثة عارمة تصيب صاحبها ومن حوله؛ ومن هنا يُنبه القرآن الكريم الرسول ، ومن اقتدى بسيرته في الفهم والعمل، إلى ضرورة اتقاء هذه الآفة التي تُسقط صاحبها في مقت الله تعالى وغضبه وعدم حمايته : {ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم، مالك من الله من ولي ولا واق}(الرعد : 37) يتأسس على ما سبق ذكره التأكيد أن مشكلة الإنسان في فكره بالاساس، فهذا المخلوق المفكر إذا زاغ فكره عن خط الاستقامة خرج عن مدار الفطرة السليمة؛ وهذا الضرب من الزيغ جِماعُه أربعة أمور أوضحها القرآن الكريم لمن كان له قلب سليم وألقى السمع وهو شهيد، وهي :
1- الجهل، وهو أصل كل شر ومفسدة، ولذلك يتسبب الجهلة في هلاك الانسان وخراب العمران {وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم}(الأنعام : 119).
2- اتباع الهوى، دون رقيب، فإذا كان المرء ميّالا بطبعه إلى حب الشهوات، فإن هذا الاتباع يصبح مشكلة عندما يخرج عن مسار الفطرة، حيث يضل صاحبه قال تعالى : {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم}(الجاثية : 23)، بل وقد يتسبب اتباع الأهواء في القضاء على كل مصادر الخير والرشاد، وعلى رأس ذلك قتل العلماء والصالحين {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون}(المائدة : 70).
3- الظن، بمعناه الدال على الوهم، وهو من أعظم الآفات التي تصاب بها المجتمعات الانسانية، إذ كثيرون هم الذين يتبعون الظن، وقليلون هم الذين يتبعون الحق : {وما يتبع أكثرهم إلا الظن}(يونس : 36)، {إن يتعبون إلا الظن وما تهوى الأنفس}(النجم : 23). وما كان المرء ليبلغ مرتبة الظن والوهم لولا رفضه وابتعاده عن الحق {فماذا بعد الحق إلا الضلال}(التوبة : 32).
4- التكبر والغرور، وهما من أبرز عوامل عمى البصيرة وتلف الضمير، إذ يؤديان معا إلى حب الذات وخداعها، فيرى المغرور والمتكبر في نفسه مالا حقيقة له، فهو يشعر بالاكتفاء والاستغناء {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}(العلق : 6) ويسير في درب الاستكبار {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم}(البقرة : 87) فهذه الآفة من ميراث إبليس، لعنه الله تعالى، أول مستكبر في تاريخ الخلق، ونتيجتها الحرمان من المعرفة الربانية والهدى الرباني {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض}(الأعراف : 146) و{كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}(غافر : 35).
هذه جماع مفسدات الفكر والعقل السليم، والقرآن الكريم حافل بأصناف أخرى، ذكرها تنبيها وترشيداً وتزكية للنفس، بل وحارب منطقها الخاطئ، الذي يقف خلف العديد من حالات الإحساس بالتوتر والقلق والفراغ واللا معنى، كما تشير إلى ذلك الكثير من الكتابات المعاصرة، بل وتقف خلف انتشار حالة العدوانية التي استطاعت أن تنفذ إلى قلب بعض الناس بعدما سيطرت على فكرهم، وعقولهم، فخرجوا من دائرة الفطرة ليسقطوا في مستنقع البهيمية.
د. عبد العزيز انميرات