ما زلت أذكر أني كتبت رسالة لأستاذي مالك رحمه الله أثناء سنة 1959م أخبره فيها أني قد أغادر المغرب إلى الخارج، وكنت أنوي الإقامة بإسبانيا، فأجابني برسالة يقول لي فيها: ” الزم ثغرك ” ومرت بعض السنين فإذا به يكتب لي راغبا في الخروج من الجزائر والاستقرار بالمغرب، لما لقيه من بعض المضايقات من النظام الجزائري الثوري.. وقد أجبته بأني اتصلت بجهات نافذة وهي ترحب بقدومك ونزولك ضيفا مكرما معززا بالمغرب غير أني ختمت رسالتي قائلا: “لعلك تذكر أنني كنت أنوي مغادرة المغرب والإقامة بإسبانيا فكانت نصيحتك قولك لي :”الزم ثغرك”، وأنا أنصحك بنفس نصيحتك “الزم ثغرك” وقد تجاوب مع نصيحتي ففتح الله عليه إذ أَعدَّ شبابا في ميدان الدعوة؛ الواحد منهم كألف وقد شاهدت وما زلت أشاهد تلك الفتوحات الربانية.
وقد بلغني أن بعض إخواننا المفتوح عليهم في أمكنة ما يفكرون أو يُفكَّر لهم في الانتقال من بيئة الفتح إلى وسط آخر، وبالتجربة المعيشة أن التسرع في الانتقال من أمكنة الفتح إلى إقامة أخرى ربما تكون مغرية ولكن غير مضمونة النتائج، لذلك شُرِّعَت الاستخارة والاستشارة وأخطرُ ما يُخشَى على الدعوة إلى الله التسرع والوقوع في متاهات لا يُسْتَبعدُ أن يكون وراءها تلبيسُ إبليس وشهوات خفية مع النوايا الحسنة.
ولقد شاهدنا دعاة لم يكن لهم ذكر في بيئتهم ولا في مهجر ظنوه مناسبا ولكن الله ساقهم إلى بعض الجهات القاحلة حيث فتح الله عليهم فيها.
إن الانتقال من مكان إلى آخر أو من حال إلى حال يجب أن يكون نتيجة تفكير عميق ودراسة مستفيضة واستخارة متكررة واستشارة الحكماء وما دام الداعي إلى الله يستصحب معه الإخلاص فإن الله لا يخيبه وقد يكون من توفيق الله أن يلتزم الداعي إليه الثغر الذي فتح الله عليه فيه ورحم الله أبا عمر الداعوق فقد عانى الأمرين عندما تحمس بعض الشباب لتغيير منهج دعوة جماعة عبد الرحمان متأثرين بالخطب الحماسية لبعض كبار الدعاة من مصر الذين كانوا يزورون لبنان وقد أثر ذلك تأثيرا واضحا في اختلال تحقيق أهداف ذات أهمية كانت مرسومة لديه منذ أول وهلة وقد كنت بجانبه لما كان عليه من الحق وقد أصلحنا ذات البين بين بعض هؤلاء الشباب وبينه عندما جمعنا الشيخ عمر الداعوق والمنشقين في بيت أخي الشهيد الشيخ الدكتور صبحي الصالح بمدينة طرابلس صيف 1954 ولكن الانشقاق عاد أقوى في الستينيات مما اضطُرَّ معه الرجلُ الصالح إلى مغادرة لبنان والاستقرار في الشارقة حيث لقي ترحابا من أميرها وولي عهده وأخيه.
ومن المعلوم أن ما أفسد خطط المصلحين وبطَّـأَ سيرهم وشقَّ صف وحدة دعوتهم مثلُ حماس دون تفكير وعاطفة دون عقل وطموح دون تخطيط وإقدام أو إحجام دون استشارة ذوي التجربة والحكمة وكذلك فرطُ الذكاء والقدرةُ على الإقناع مستعينا بالجراءة وحياء الآخرين، والعجبُ أن بعضَهم كان يعتمد على كتب في غسل الدماغ وكتب الجاسوسية وأساليب المخابرات. وما زلت أذكر كلمة قالها لي شيخي أبو عمر الداعوق رحمه الله ونحن في رحلة دعوية بالبقاع بلبنان وذلك إثر كلماتنا التي ألقيناها في مسجد بإحدى قراها إذ قام أحد الحاضرين متحمسا وهو يقول:” أبايعك على الجهاد في سبيل الله تعالى” فقال لي:” إن مثل هؤلاء المتحمسين يفسدون الدعوة فمن شاء الجهاد فليلتحق بفلسطين أما جماعتنا فتحتاج إلى من يفكر ويسهم في إنجاح مشروعنا الذي يحتاج إلى وقت كاف وإلى تكتم وهدوء وإلى حسن القدوة والقيادة”.
وبعد، فنسأل الله حسن الخواتم ودوام العمل ولو قَلَّ والقبولَ منه سبحانه وأن يحمينا من تلبيس إبليس، ونعوذ به من السلب بعد العطاء وأن نكون سببا في تشتيت الدعوة إليه بعد وحدة صفِّها آمين.
أ.د. عبد السلام الهراس