قال تعالى : {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}(الأنبياء : 47).
بالعدل قامت السماوات والأرض، والعدل أساس الملك، ومن عدل أراح واستراح، وصدق الأعرابي حين همس عند رأس الفاروق رضي الله عنه بقوله : >عدلت فنمت< وما أحكم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وما أفقهه حين كتب لأحد عماله رسالة يقول فيها : >إذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنها مرَمَّتُها، والسلام< جوابا على رسالة لعامله يقول فيها : >إن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالا نرُمُّهَا به فعل<(تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 216) فلقد أدرك عمر رحمه الله أن العدل يحصن القلوب والنفوس، يحصن الأجسام والأرواح، يحصن الأرزاق والأموال، يحصن المناصب والوظائف، إنه العدل الذي أمر الله تعالى به على كل حال، العدل الذي أوجبه الإسلام مهما تكن النتائج والعواقب!!! قال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}(النساء : 134) إنه العدل الذي أمر الله به مع الأعداء كما أمر به مع الأصدقاء قال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(المائدة : 9) إنه العدل يا أمة العدل!.
أما أنت فلاحظ أن الله تعالى لم يقل : كونوا قائمين، وإنما كونوا قوامين بصيغة المبالغة في الموضعين!! لأن العدل، طريق التقوى، وسبيل النجاة! أُمِر به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم}(الشورى : 13) وقال للأعرابي >ويلك من يعدل إن لم أعدل!<.
هذا العدل كما هو حصن في الدنيا لمن رُزقه، هو حصن في الآخرة لمن أعطيه، ذلك أن من استحضر عدل الله في حكمه، فحكم بالقسط، وقضى بالعدل، وشهد بالحق، ولم يظلم فقيرا، ولم يحقر مسكينا ولم يعتد على ضعيف استحضارا منه لعدل الله سبحانه يوم القيامة، وحياء من الحق جل في علاه، وخوفا من مصيره يوم توزن الأعمال، فما أسعده بفضل الله عليه، ورحمته به، والناس في شدة وضيق، وترقب لمصير لا يُدْرَى أفي الجنة هو أم في النار؟ قال صلى الله عليه وسلم : >سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل…<(رواه البخاري).
روى الخطيب أن رجلا استعان بالخليفة العباسي المهتدي بالله على خصمه فحكم بينهما بالعدل فأنشأ الرجل يقول :
حكَّمتمـوه فقضى بيـنكـم أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ولا يبـالي غبن الخاسر
فقال له المهتدي : أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، ولست أغتر بما قلت! وأما أنا فإني ما جلست مجلسي هذا حتى قرأت {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} قال : فبكى الناس حوله : فما رُئِيَ أكثر باكيا من ذلك اليوم<(1).
فهل من صالحين يقرأون هذه الآية قبل أن يجلسوا للفصل بين الناس؟ فاليوم يَقضون وغدا يقضى فيهم! اليوم يَحكمون وغدا يحكم عليهم! وحكم الله لامرد له، وقضاؤه لا مفر منه، فإن قدرت على شخص فلا تنس قدرة الله عليك، وإن تمكنت من غيرك فلا تنس تمكن الله منك، فإنك في قبضته! وستقف بين يديه، فلا تنس قوله لك، تنبيها وإرشادا {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}.
—-
1- البداية والنهاية لابن كثير 26/11.