ابراهيم والعيز
إن العقل هو جوهر إنسانية الإنسان وشرفه وامتيازه، وهو ركيزة أساسية في التقدم الإنساني والحضاري، وهو منبع العلم ومطلعه وأساسه، وهو كذلك ميزان التعادل في الإنسان، وسر الله فيه، به يتعرف إلى خالقه، وبه يعرف نفسه، ويعرف مبدأه ومنتهاه، ويعرف مكانه في الوجود الذي يحيا فيه.
وبتدبر كتاب الله عز وجل نجزم أنه لا تكاد تخلو سورة من سوره إلا ويطالبنا الحق تعالى فيها بتحكيم العقل، أو يلومنا على عدم تحكيمه، أو ينعت من لا يحتكم إليه بالعمى والصمم أو يشبههم بالدواب، خصوصا بعد ذكر الآيات والبراهين العقلية الدالة على وجود الله سبحانه وقدرته ونعمته. قال الله تعالى : {إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار}(آل عمران : 190 – 191)، وقال سبحانه : {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}(محمد : 25)، وقال أيضا : {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}(الأنفال : 22).
ومن هنا فإن معاني هذه الآيات أبلغ دليل على تشريف الإسلام للعقل، وحرصه على بيان مزيته، والتي تتمثل في كونه -العقل- سلطة آمرة ناهية إلى جانب حكم الشرع لا تجافي بينهما ولا تضاد. وإن أي تعطيل للعقل يساوي مخالفة مراد الله وحكمته من منحه نعمة العقل للإنسان، وبذلك ثبت أن النقل والعقل من حيث الحجية صنوان لا يفترقان، ولا يستغني أحدهما عن الآخر، وواقع الأمر أنه لا يستقيم للإنسان دينه حتى يستقيم عقله.
ولما كان للعقل الإنساني هذا الأثر البارز وهذه الأهمية في قضايا الإيمان والمنهج الإسلامي، كان طبيعيا أن يحيطه الإسلام بسياج من الأحكام والمبادئ التي تعمل على صونه وحفظه سليما معافى، وتؤهله للقيام بمهمته الجليلة، ومنها :
1- منع الإنسان من تناول ما من شأنه الإضرار بالعقل، والتأثير على قدرته، وتحصينه من كل ما يشل ويعطل طاقاته الفكرية المتجددة وغير المحدودة، ولذا حرم الإسلام شرب الخمر وتعاطي سائر المخدرات، قال تعالى : {إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}(المائدة : 92).
2- إعلان الإسلام بأن للمجتع حقا في سلامة عقل كل فرد فيه، لأن من يعرض عقله للخلل، يصير عبئا على المجتمع، لذا وجب حماية وصيانة المجتمع من كل ما من شأنه أن يزيد في تعميق هذه الأزمة، لأن من يختل عقله لا يقتصر ضرره على نفسه، بل يتعداه إلى غيره.
3- تنمية العقل ماديا بالغذاء الجيد الذي ينشط الذهن، وتنميته معنويا بالنهم في العلم والاستزادة من المعرفة تحت شعار قوله تعالى : {وقل رب زدني علما}(طه : 11).
4- تحرير العقل من الاعتقادات الباطلة التي تفسد عمله كالخرافات والأساطير والأوهام، والاعتقاد بالسحر والشعوذة، وما إلى ذلك ما يعطل طاقات العقل ويهدرها في غير ما طائل، ولقد ثبّت الرسول هذا المعنى في النفوس حين ربط بعض الناس كسوف الشمس بموت ولده ابراهيم لأنهما اجتمعا معا، فقال : إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما ءايتان من ءايات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى ينكشف ما بكم<(متفق عليه).
5- تربية روح الاستقلال في الفهم، واتباع ما أثبته البرهان والدليل، ونبذ التقليد، وتحقيقا لهذ الأمر دعا الإسلام إلى الاجتهاد فيما لا نص فيه من القضايا والنوازل، وجعل للمجتهد أجرين إن أصاب وأجرا واحدا إن أخطأ.
6- تدريب الطاقة العقلية على الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة، من خلال وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي القائم على اليقين والحق، وكذا تدبر نواميس الكون وتأمل ما فيه من دقة وارتباط، واستخدام الاستقراء والتمحيص الدقيق المستكنه لحقائق الأشياء.
7- توجيه الطاقة العقلية إلى النظر في حكم التشريع ومقاصده لتلمس غايات الشارع من التشريع.
8- توجيه الطاقة العقلية للإنسان وجهة تكفل ضمان سير المجتمع على نهج صحيح؛ ومن هنا فإن التكافل الاجتماعي، والرقابة على سير الأمور على الوجه المطلوب يقتضيان وعيا كافيا وعقلا ناضجا، ولذا كان لابد من توجيه الطاقة العقلية للعمل في هذا الميدان.
9- فتح باب الاجتهاد لمعرفة المقاصد والأهداف من النصوص والأحكام الشرعية، واستخراج الأحكام للحوادث الطارئة التي يفرزها الواقع، والتي لم يرد نص على حكمها.
10- منع التضليل الفكري ولاسيما بالنسبة للمستويات العقلية المحدودة، عن طريق بث الأفكار الهدامة المنافية لمبادئ الدين وقيم الحق والخير والفضيلة، مصداقا لقوله تعالى : {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم..}(الأحزاب : 60).