إن معرفة الداء وتحديد وصفته ووضع اليد عليه يعد خطوة إيجابية في طريق العلاج والشفاء ولاسيما إذا كان الداء معنويا ينخرصفوف من عليهم المعول بعد الله في بناء أمة رائدة لخير وسعادة البشرية، والجميع يعلم أن الأدواء الخطيرة تكون بمثابة الهدم المستمر إن لم يتدارك الأمر وكما قال الشاعر :
متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبني وغيرك يهدم
لوألف بان خلفهم هادم كفى *** فكيف ببان خلفه ألف هادم.
وموضوعنا اليوم داء من أخطر الأدواء، عانت منه كل حركة إسلامية الأمرين، ألا وهوداء الفتور الذي يحطم صرح البناء ويربك الأعمال ويفسد الخطط، ويبعثر النظام، ويحدث الخلل في الصف ويجعل الطاقات التي من المفروض أن تتجه إلى البناء تتراوح بين الترميم والتسديد والتقريب إن وجدت قيادة راشدة تحسن الترميم والتسديد والتقريب، وإلا فإن الخطر سيستفحل ويؤدي الأمر -لا قدر الله- إلى ما لا تحمد عقباه.
الفتور لغة يطلق على معنيين :
1- السكون بعد الحركة والانقطاع بعد الاستمرار.
2- الكسل والتراخي والتباطؤ بعد الجد والنشاط.
اصطلاحا : داء يصيب العاملين : أدناه الكسل والتراخي، وأعلاه الانقطاع، وأخطره وأخبثه الانحراف والانحلال، يقول تعالى في شأن الملائكة الذين يعبدون الله ويسبحونه من غير انقطاع : {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون}. وسئل عبد الله بن مسعود عن سبب بكائه في مرض موته فقال: إنما أبكي لأنه أصابني على حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد.
وهكذا نرى هذا الصحابي الجليل بالرغم من جهده وجهاده واجتهاده يتألم على اللحظة التي أصابه فيها فتور وأي فتور يمكن أن يصيب عبد الله بن مسعود يا ترى؟
وهذا الداء يمكن أن يستولي على الشخص في أي لحظة لكن الداعي إلى الله إذا حلت به هذه الفترة وأصابه هذا الداء فلتكن فترة استراحة يجدد بعدها العزم على الانطلاقة من جديد لاغتنام الفرصة وتدارك ما فرط منه، يقول صلى الله عليه وسلم : >لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك<.
ويقول ابن القيم رحمه الله: “فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لابد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان مع أن العبادة المحببة إلى الله سبحانه هي ما دام العبد عليها وكان أحب الدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام عليه صاحبه”(البخاري رقم 43 الفتح 1-101).
وكان الرسول الحبيب يقول في دعائه: “اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور” وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم الباب يوما كاملا ثم انقطع. وإن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصول.
مـظـاهـر الفـتـور
إن للفتور مظاهر تبدوعلى العامل في تصوره وسلوكه وأخلاقه وروابط علاقاته تنذر بالخطر وتحتاج إلى العلاج في التو واللحظة منها :
1- الاشتغال بالمفضول عن الأفضل فتنقلب عنده الأسس والموازن فيتحاشى الصغائر ولا يبالي بالكبائر، يشتغل بالنوافل ويفرط في الفرائض، يكثر من الصدقات ولا يبالي بأكل الربا والتعامل بها، وقصة إخوة يوسف الذين كمموا أفواه إبلهم لكيلا تأكل لقمة من حشيش الغير مع نسيانهم لما فعلوا بيوسف عليه السلام وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الورع الكاذب.
2- الاهتمام بالترقي العلمي والتنظير الخيالي عن حشد الهمم وتقوية العزائم في الحركة والعمل الجاد والاهتمام بالتخطيط ونسيان تكوين الرجال الشيء الذي يجعل العاملين في أغلب أوقاتهم يفرغون جل طاقتهم أوكلها في التخطيط والتنظيرحيث يصدق عليهم المثل العربي الذي يقول : “أسمع جعجعة ولا أرى طحينا”.
3- التكاسل عن إعمال الخير والعبادات وتكثير الأعذار والتبريرات يلوي أعناق الآيات والأحاديث “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”. “فوق طاقتك لا تلام” ما هي الطاقة؟ وما مداها يا ترى؟
4- ضعف التلقي للتنفيذ فيتلقى التكاليف سواء منها الشخصية أوالجماعية فلا يعيرها أي اهتمام ولا عليه في أن تنفذ أولا تنفذ فتراه متثاقلا عند التنفيذ ومهيئا للتبريرات الفارغة والأعذار الواهية وكما قيل: “كل يوم لا تزيد فيه شيئا في الدنيا فأنت زائد على الدنيا”. ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه :”كل لحظة لا تربح فيها درهما لدنياك أوحسنة لآخرتك فلا تعد ذلك من عمرك”.
أسباب الفتور
1- الغلو والتشدد في الدين :
إن الانهماك في الطاعات مع حرمان البدن من حقه يؤدي إلى الملل، والملل بدوره يؤدي إلى الفتور ثم إلى الانقطاع وأخيرا لا قدر الله إلى التحلل والانحراف لذا يقول الحبيب المصطفى : >إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلوفي الدين<، ويقول أيضا: “هلك المتنطعون”.ثم يقول : >لاتشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات<. يقول تعالى : {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها}. وقصة الرهط الذين جاءوا إلى بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسالون عن أعماله… والصحابي الجليل حنظلة الذي جاء إلى أبي بكر وهويقول قد نافق حنظلة فأرشده الحبيب المصطفى إلى التوازن في حياته. “ساعة وساعة يا حنظلة” ثلاث مرات.
2- مفارقة الجماعة وإيثار حياة العزلة والتفرد:
إن الطريق طويل كثير العقبات يحتاج الى تجديد والتجديد يحتاج إلى جماعة تجدد نشاط الفرد وتقوي إرادته وتشحد عزيمته : يقول صلى الله عليه وسلم : >عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية<… ولكن إذا فارق الجماعة سئم ومن ثم تراخى وتباطأ ولربما انقطع وقعد، الشيء الذي جعل الرسول الكريم يؤكد ويشدد على لزوم الجماعة يقول صلى الله عليه وسلم : >عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهومن الإثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة< ويقول أيضا : >وأمركم بالسمع والطاعة والجهاد والجماعة فإن من فارق الجماعة شبرا فمات كانت ميتته ميتة جاهلية<.
ويقول أيضا : >الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم<.
3- صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الفاترة الدنيئة :
قد يصاحب العامل أفرادا ممن لهم ذيوع وشهرة وعندما يقترب منهم ويعايشهم يجدهم فاترين في العمل لا هم لهم إلا الجلبة والضجيج كالطفل الأجوف فيصيبونه بداء الفتور والكسل والخمول لذا نجد الحبيب المصطفى يؤكد على ضرورة انتقاء الصاحب والمجالس فيقول : >المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل<، ويقول أيضا : >إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير<الحديث……..
4- قلة تذكر الموت والدار الآخرة:
إن قلة تذكر الموت والتفكير في الرحيل يؤدي إلى طول الأمل وطول الأمل يؤدي إلى الاشتغال بأمور الدنيا ونسيان الآخرة وبالتالي يؤدي الأمر إلى الفتور في الإرادة والضعف في العزيمة والبطء في النشاط والحركة كل ذلك يؤدي إلى الوقوف والانقطاع -لا قدر الله- لذا يقول الحبيب المصطفى : >أكثروا من ذكر هادم اللذات< (الموت).
5- عدم استشعار المسؤولية الملقاة على العاتق :
إن صاحب الفتور يسقط عن نفسه ما أنيط به من مسؤولية تجاه دينه ودعوته وأمته فيموت الشعور في نفسه وتنطفئ جذوة الإيمان في قلبه ومن ثم يصبح كمًا مهملاً لا يعد لا في العير ولا النفير….
6- التهرب من التكاليف وتحمل المسؤولية في الأوقات الحرجة ولاسيما عند ما يقل الكفء ويكثر الاستشراف لتحمل المسؤولية من قبل من لا يقدرها حق قدرها فتختلط الأمور وتكثر الجعجعة ولا شيء غير ذلك وهذا الأمر ملاحظ في المجتمع بشدة، نرجو من الله أن يتعالى المسلمون عن مثل هذا السلوك الذي لا يليق وتحمل الأمانة كما يريدها الله تعالى.
الــعــلاج
إن مشكل الفتور يتفاوت علاجه من شخص إلى أخر ومن جماعة إلى أخرى كالدواء الذي يعالج به الأدواء فما يصلح لهذه الفئة لا يصلح للأخرى وما يصلح لفرد ربما لا يصلح للفرد الأخر، بل لابد من الفحص الدقيق والتحليل للمواصفات حتى يتعين الداء ويتحدد الدواء وهي كثيرة منها.
1- التركيز على وجوب الدعوة :
إن الدعوة الإسلامية هي تركة الأنبياء والمرسلين فلا بد من الشعور والإحساس بأهمية هذه المهمة العظيمة وتلك المسؤولية الجسيمة فبقدر ما هي تشريف فهي أمانة وتكليف يقول ابن القيم رحمه الله” إن مقام الدعوة إلى الله هوارفع المقامات عند الله تعالى والدعاة يجب عليهم ألا يستعجلوا الوصول إلى الغاية وأن لا يرتبوا وجودهم على تحقيق الهدف بل المطلوب منهم هوالثبات على الحق والاستقامة على الطريق وبذل الجهد والتضحية وإذا حز بهم أمر التجأوا إلى الله بالدعاء والتضرع”.
إذ لا علاج لداء الفتور إلا بالشعور التام بأهمية هذه الدعوة والإحساس الكامل بهموم الأمة وما تتخبط فيه من مصائب ومشاكل وما يتطلبه الواجب من كل فرد ينتمي إليها ويحمل لواء هذه الرسالة من أجل إنقاد البشرية.
2-إحياء روح الجدية في العمل والتيقظ المستمر:
إن الجدية فى العمل شيء أساسي لبلوغ المرام يقول الرافعي رحمه الله : “إن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة ولا يبلغ العسر والحرج كما تكون فيما يسهل بعض السهولة ولا يبلغ الكسل والإهمال” : >وحي القلم<.
هذه الروح التي فقدتها الأمة والحركات الإسلامية تحاول إحياءها لكن كل واحد في هذه الحركات يتكل على غيره ليقوم بهذا الدور دون أن يلزم نفسه العناء ويجعلها في بؤرة المسؤولية ويتنافس مع المجدين المجتهدين ولا يلتفت إلى الفاترين المثبطين ويعلم علم اليقين أن ما يقوم به من جد واجتهاد فإنما يقوم به لنفسه لا لغيره يقول تعالى : {إن الأبرار لفي نعيم على الارائك ينظرون تعرف في وجوههم نظرة النعيم…}الآية.
3- التربية الفردية والجماعية :
لابد هنا من التربية للأفراد في حياتهم وللجماعة في تنظيمها ووسائلها وأهدافها وغايتها حتى يستغل الوقت ويضبط العمل وتحرك الهمم وتقوى العزائم ويصبح الجميع أفرادا وجماعة يسعون نحوالهدف والغاية بأقصر طريق وأقل جهد.
ذ. علي العلمي الشنتوفي