مبادئ تربوية في منهج دعوة رسول الله


مما لا شك فيه أن دعوة الرسول محمد  صلى الله عليه وسلم كانت تتميز باللين والحكمة والصبر والصفح والحلم، وقد استطاع بهذه الأخلاق الكريمة، أن ينشر كلمة التوحيد، ويغير من طباع الناس، كانت دعوته إلى الله عز وجل أول الأمر سرًّا يدعو لها بعض الافراد، ثم أمر بدعوة عشيرته الأقربين، قال تعال: {وأنذر عشيرتك الأقربين}(الشعراء : 212).  ثم أمر بعد ذلك بدعوة كافة الناس. قال تعالى: {فاصدع بما تومر واعرض عن المشركين}(الحجر : 94).

كانت مهمة رسول الله  صلى الله عليه وسلم متجهة إلى دعوة الناس إلى الإيمان بالله خالق الكون، وإلى التصديق بالملائكة واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وقد عمل صلى الله عليه وسلم على تمكين العقيدة في قلوب المؤمنين بمختلف وسائل التربية، وتثبيت المبادئ السامية في نفوسهم بشتى الطرق، واستمر ذلك ثلاث عشرة سنة بمكة وهو يدعو إلى التوحيد توحيد الله عز وجل، فما ضعف وما استكان حتى ترسخ ذلك في قلوب أتباعه.

وضع الرسول صلى الله عليه وسلم  لتربية أتباعه من المؤمنين منهاجا مبنيا على مبادئ قويمة وأسس سليمة، كانت خير أسس لتربية النفوس، وكانت أحسن مبادئ لتربية الأرواح، وتكوين أمة قوية، ومن هذه الأسس والمبادئ :

1- عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى  علاج الأجسام بتهذيب رغباتها، وإلى الارتقاء بالنفوس، وغرس القيم الفاضلة فيها كبحا لجماح شهواتها، فدعا إلى جهادها باعتبارها المصدر المتحكم في التصرفات، فإذا صلحت صلح الجسد كله، وكذلك نسب الله تعالى الجسد إلى الطين، ونسب الروح إليه سبحانه فقال تعالى يخاطب الملائكة: {إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين(ص: 70 – 71).

والله تعالى جعل النفس البشرية قابلة للإصلاح والتربية، فألهمها فجورها وتقواها، قال تعالى: {ونفس وما سواها، فالهمها فجورها وتقواها، قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها}(الشمس : 7- 10).

2- دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السمو بالنفس عن شهوة الجسم، والتعالي بها عن رغباته، وألا يصبح المال لديها غاية يتحكم في تصرفاتها، فيسلك الإنسان في جمعه شتى الطرق، ويبخل به على النفس والأهل والوطن والدين، وسرعان ما استجاب المؤمنون لهذه الدعوة الكريمة، وتنافسوا في إنفاق المال في أوجه الخير والإحسان ابتغاء مرضاة الله. قال تعالى : {إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ( التوبة : 111).

3- أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمق الإيمان في قلوب المؤمنين، والأخلاق الفاضلة في نفوسهم، والمبادئ السامية في عقولهم، ويدعوهم إلى استخدام العقل لمعرفة حقائق الاشياء، حتى تؤمن من هذه النفوس بالله إيمان صدق، فتمتثل الأوامر، وتجتنب النواهي عن اقتناع، وتبتعد عن نوازع النفس الأمارة بالسوء. قال تعالى : {إنما المومنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون}(الحجرات : 15). فبين سبحانه : أن المؤمن الصادق هو الذي تجتمع لديه قوة العقل، وقوة الإرادة، وقوة النفس مع قوة الشهوة، هذه القوى الأربع تعمل باسنجام كامل واعتدال لدى المؤمن، متجهة نحو الخير، محققة سعادتها وسعادة الآخرين.

فالإيمان الصادق: دليل قوة العقل، وعدم الارتياب، دليل قوة الإرادة. والجهاد بالمال وبذله في سبيل الله دليل العفة، والجهاد بالنفس: دليل الشجاعة والإقدام.

4- أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أتباعه إلى الحب في الله والبغض في الله، والعمل بما جاء في كتاب الله، ونبذ التباغض والتحاسد والتنافر، وغرس جذور الوحدة والأخوة في القلوب، وهو القائل صلى الله عليه وسلم : >لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث<(متفق عليه). فقد اعتنقوا عقيدة واحدة واتجهوا إلى قبلة واحدة وأصبح شعارهم واحدا “لا إله إلا الله محمد رسول الله” ونداؤهم واحدا “الله أكبر” وهتافهم واحدا “لبيك اللهم لبيك”.

5- وبعد أن كون الرسول صلى الله عليه وسلم المجتمع المتحد القوي الذي لا يخاف العدو، ولا يخشى الموت، وجه دعوته إلى ملوك وأمراء عصره يدعوهم إلى الإسلام، فأخذت القبائل تتوافد على رسول الله صلى الله عليه وسلم  لتعتنق الإسلام، وتتفقه في دين الله، ويطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفد إلى مدنهم وقراهم من يفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن، وهكذا أوفد الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، كما أوفد أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال: >يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا<(البخاري).

6- وهكذا صدع الرسول صلى الله عليه وسلم  بأمر الدعوة فدعا اتباعه إلى الجهاد بالنفس والمال في سبيل الله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}(التوبة : 41).

7- لم ينتشر الإسلام بالقوة والإكراه -كما يدعي ذلك خصومه- لأن الإيمان متعلق بالقلوب، والقلوب لا يمكن أن توقن عن طريق الإرهاب والتخويف، لأن ما زرع بالخوف لا يدوم طويلا، قال تعالى : {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}(البقرة : 255). وقال تعالى : {اُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل : 125)، وقال تعالى : {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين}(يونس : 99).

8- وبعد أن بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة ربه وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده على مدى ثلاثة وعشرين سنة، قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، يبلغ ما يوحى إليه من ربه عز وجل، دون كلل ولا ملل، يدعو بالهداية لمن أعرض عنه، وخالفه، ويعد من آمن معه بجنة النعيم. وفي ختام رحلته الدعوية وقف صلى الله عليه وسلم على جبل عرفة يوم الحج الأكبر في السنة العاشرة للهجرة يعلن على الناس البيان الختامي لرسالة الإسلام في خطبة تضمنت كثيرا من المعاني، وحققت كثيرا من الأماني، وأبرزت حقوق الإنسان وأكدتها وأوجبتها، ونزل جبريل عليه السلام في ذلك المكان والزمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : {اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة : 4). لقد كانت هذه الخطبة ـ خطبة حجة الوداع ـ منارا للمسلمين، أنارت بصائرهم فاهتدوا بهديها وسلكوا منهجها.

9- الدعوة إلى الله فيها من المشقة والصعاب، ما لا يتصوره الإنسان، وفيها من إعراض الكافرين والمنافقين والملحدين والمستهزئين والمكذبين، الشيء الكثير لهذا طلب الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم ومنا أيضا بعده بأن نتحلى بالصبر ونتحلى بالحلم قال تعالى: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجر جميلا}(المزمل : 9)، وقال تعالى : {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران : 159)، وتعترض الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان، من له مصالح شخصية ودنيوية عاجلة، فيتهمون أصحاب الدعوة بالجمود والرجعية واستغلال الدين، فيقول الله تعالى : {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا}(المزمل : 10).

10- علينا -نحن المسلمين- أن نعمل وندعو إلى الله تعالى، وغاية عملنا ودعوتنا هي إبعاد الناس عن الوهم والخرافات، وهدايتهم إلى صراط الله المستقيم إلى درجة القناعة واليقين وبعد ذلك نفوض أمرهم إلى الله عز وجل، يقول الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}(القصص : 56).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>