مـقـدمــة :
لقد حرص الإسلام على أن يقدم للإنسانية من مكارم الأخلاق أسماها ومن السلوكات القويمة أكملها، لأنه يحاول تحرير المؤمن من عقد وأمراض الجاهلية، ويسمو به إلى مستوى المهام العظمى المنوطة به، وفي طليعتها عبادة المولى تعالى، ومعاملة الناس بالحسنى والتحلي بالصفات الحميدة، وها هو ديننا الحنيف يوجهنا إلى صفة مثالية لا تستقيم حياة كريمة بدونها، إنها الأمانة، وهي من الدعائم الأساسية التي بني عليها الإسلام، وبموجبها تتم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنتظم مع المقومات الأساسية لدعوته صلى الله عليه وسلم وهي التبليغ والأمانة في أداء الرسالة والصدق.
والأمة لا يمكن أن ترسي قواعدها على دعائم ثابتة، ولا أن تشيد بناء حياتها المتين إلا إذا اتصفت بها، وحافظت عليها.
فالأمين موضع ثقة الناس واحترامهم، والخائن مناط سخطهم واحتقارهم، ونتيجة ذلك أن ينجح الأول، بينما يخفق الثاني.
وحتى يتم أداء أمانة الدعوة على الوجه المطلوب، لابد لنا من لوازم وموجبات.
وقبل الخوض في بعض لوازم أداء أمانة الدعوة لابد من الإشارة إلى أن التكليف يقتضي الأهلية يقول سبحانه وتعالى : {وكانوا أحق بها وأهلها}(الفتح : 26).
من لوازم الأداء الجيد للدعوة
1- الإخلاص والتجرد لله :
وهو سر بين الله وعبده لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله -على حد تعبير الشيخ الجنيد-.
ويقول الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي : >الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي<.
والمقصود به إرادة وجه الله تعالى بالعمل، وتصفيته من كل شوب ذاتي أو دنيوي، وعلى هذا فإن أساس الإخلاص : تجريد النية فيه لله تعالى.
إن المؤمن، وهو يقوم بوظيفته الدعوية، وأداء أمانة من الأمانات متى استحضر أن الله هو المقصود الأول والأخير بهذه الأمانة، وأنه يحقق بذلك عبديته لله تعالى، كان ذلك داعيا إلى العمل، بل إلى إتقانه و تجويده مع بذل الوسع في أدائه على الوجه المطلوب. والله سبحانه يقول في حديث قدسي : >اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون بأعمالكم فانظروا هل تجدون عندهم جزاء<.
فالمقصود بالعمل وجه الله سبحانه ومرضاته، لأن عنده الجزاء الأوفى، أما الناس فمهما شكروا ومهما أجزلوا ومهما أعطوا، فمصير ذلك الزوال والفناء، أما عطاء الله وثوابه وما عنده هو الأبقى والمدخر يوم لا ينفع مال ولا بنون..
2- الزهد في الدنيا وإيثار الآخرة :
يقول الفضيل بن عياض : >جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد<.
ويعرف الزهد على أنه، ترك كل ما يضر في الآخرة، ويجلب سخط الله في الدنيا والآخرة، من كثرة إقبال على الدنيا وانغماس في شهواتها وإفراط في حبها واكتسابها بدون توازن بين الأخذ والإنفاق وبين الاستئثار والإيثار.
كما يعرف على أنه : الرضا بالموجود والصبر على المفقود وعدم التطلع على الفائت والشكر على الحاضر وهو ما يفهم من قوله تعالى : {لكي لا تاسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}(الحديد : 23).
ولما كانت الدنيا، بما فيها من شهوات ومغريات هي التي تشغل الإنسان عن الاستقامة على دين الله ومنهجه القويم، وقيامه بسمؤولية النهوض بالأمة وأمانة الدعوة إلى الله والقيام بأمر الدين، شرع الإسلام الزهد للإعراض عن مفاتن الدنيا ومباهج الحياة قلبيا حتى يستطيع الإنسان التحكم في هواه ويضبطه وفق ما جاء به الشرع الإسلامي الحنيف.
فلا هو في الدنيا مُضيعٌ نصيبه
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
وأساس الزهد عند المحققين من العلماء مبني على هوان ما سوى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا السوى أغلى شيء يحرص عليه الناس والقرآن الكريم يوجهنا إلى السمو والارتفاع عن مستوى التطلع إلى الدين من الأهداف والغايات : {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين}(التوبة : 24).
وبهذا يكون الزهد بمثابة القوة التي تمكن الشخص من قهر دواعي نفسه والقضاء على ما تستشرف عليه من زينة ومتاع وعلو، في الوقت الذي جُبلت فيه على حب ذلك قال تعالى : {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}(آل عمران : 14- 17).
ولعل من ثمرات الزهد في الدنيا وإيثار الآخرة :
> الظفر بحب الله تعالى والفوز بالجنة {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا}(مريم : 96).
> تحقيق النصر والتمكين والاستخلاف في الأرض.
> {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المومنين}(الصف : 13).
إن الزهد في الدنيا يعلم الإنسان المستخلف في الأرض كيف يتعامل مع الأرض مقتديا في ذلك بأشرف المستخلَفين محمد صلى الله عليه وسلم، (الذي مات وما شَبِع من خبز وزيت في يوم مرتين)، بل كان ينام على الحصير حتى يرى أثره على جنبه صلى الله عليه وسلم.
لقد خلق الله الإنسان لوظيفة العبادة والقيام بأمانة الاستخلاف والدعوة إلى الله وفق الأوامر الربانية، فمن العبث والحمق التحول عن عبادة المُنْعِم إلى عبادة النعمة نفسها أو التحول عن تكبير المسخِّر إلى تكبير المسخّر.
3- الصبر والتحمل :
إن العمل في حق الدعوة يقتضي الصبر والقدرة على التحمل، وهذا الخُلق من محاسن أخلاق المسلم.
والصبر هو حبس النفس على ما تكره، واحتمال المكروه بنوع من الرضا والتسليم.
وقد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف، وذكر الصبر في القرآن في أكثر من موضع، وأضاف أحسن الدرجات إلى الصبر وجعلها ثمرة له، قال تعالى : {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا}(السجدة : 24)، {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}(الزمر : 10).
وأما احتمال الأذى فهو الصبر ولكنه أشق، وهو بضاعة الصديقين، وشعار الصالحين، وحقيقته أن يؤذى المسلم في ذات الله فيصبر ويتحمل، فلا يرد السيئة بغير الحسنة، ولا ينتقم لذاته ولا يتأثر لشخصه ما دام ذلك في سبيل الله، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء عليهم السلام ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : >اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون<.
هذه صورة من صور احتمال الأذى كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصورة أخرى له : قسّم يوما مالا فقال أحد الأعراب : قسمة ما أريد بها وجه الله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمرت وجنتاه ثم قال : >يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر<.
4- العلم/ الفهم :
العلم شرط ضروري للعمل لكي يصح ويستقيم على أمر الله سواء كان هذا العمل عبادة لله أو معاملة مع الناس.
روى سفيان بن عيينة عن عمر بن عبد العزيز قال : من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
ويقول معاذ بن جبل في فضل العلم على العمل : وهو إمام العمل، والعمل تابعه.
وقد اشترط علماء الأصول لصحة التكليف ثلاثة شروط من بينها : أن يكون الفعل معلوما للمكلّف علما تاما حتى ىتصور قصدَه إليه، ويستطيع أداءه على الوجه المطلوب منه.
فلا تستقيم عبادة يجهل صاحبها ما يجب لها من شروط، وما تقوم عليه من أركان.
وقديما كان السلف الصالح يوصون التاجر الذي يدخل السوق أن يتفقه في أحكام البيوع والتعامل، أو يَلزم فقيها يسدده ويرشده كما كانوا يوصون من يؤهل نفسه للسيادة والقيادة أن يتزود من العلم بما يلزم لمنصبه وما ينير له الطريق، ومن مأثورهم قولهم : تفقهوا قبل أن تسودوا.
وقد قدم يوسف عليه السلام نفسه لملك مصر، ليضعه حيث يجب أن يوضع مثله، مشيرا إلى مؤهلاته الشخصية وعلى رأسها الحفظ -بمعنى الأمانة- والعلم. قال {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}(يوسف : 55).
وفي الأعمال القيادية العليا مثل الإمامة العظمى والقضاء، اشترط الفقهاء فيمن يتولاها العلم الاستقلالي الذي يبلغ بصاحبه درجة الاجتهاد، حتى إذا استفتي أفتى بعلم وإذا أمر بحق، وإذا حكم حكم بعدل، وإذا دعا دعا على بصيرة.
ومن الواجب على الأمة أن تتدارك أمورها، وتُصْلِح من شأنها، حتى لا يلي أمورَها إلا أكفاء الناس وأصلحهم للقيادة علما وعملا.
5- حسن التوكل على الله :
إن التوكل على الله تعالى في جميع الأعمال، بالإضافة إلى أنه واجب خلقي، فهو فريضة دينية، وعقيدة إسلامية وذلك لأمر الله تعالى به في قوله {وعلى الله فليتوكّل المومنون}(آل عمران : 122). وقوله : {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مومنين}(المائدة : 23)، لهذا كان التوكل المطلق على الله سبحانه وتعالى جزءا من عقيدة المؤمن بالله تعالى.
والتوكل على الله تعالى ليس معناه نبذَ الأسباب، وترك العمل، والقنوع والرضا بالهون والدون، وبما تجري به الأقدار، بل طاعة لله عز وجل بإحضار كافة الأسباب المطلوبة لأي عمل من الأعمال التي يريد مزاولتها والدخول فيها. فلا يطمع في ثمرة دون أن يقدم أسبابها، ولا يرجو نتيجة دون تهييء جميع الظروف لتحقيق هذه النتيجة. غير أن موضوع إثمار تلك الأسباب وتفعليها موكول إلى الله سبحانه وتعالى إذ هو القادر على ذلك دون سواه.
والمسلم الذي يؤمن بسنن الله في الكون، لا يعتقد أبدا أن الأسباب وحدها الكفيلة بتحقيق الأغراض، وإنجاح الأعمال، بل يرى ذلك من قبيل الطاعة التي أمر الله سبحانه عباده بها.
ومــن هنا تكون النظرة إلى الأسباب : بأن الاعتماد عليها وحدها كفر وشرك، وتركَها وإهمالَها فسق ومعصية.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمره ربُّه بالهجرة إلى المدينة أعد لها جميع الترتيبات واتخذ كل التدابير لإتمامها وإنجاحها من :
> اختيار الرفيق من أحسن الرفقاء.
> إعداد زاد السفر من طعام وشراب.
> إعداد راحلة ممتازة للركوب.
> إحضار خرِّيت (جغرافي) عالم بمسالك الطريق ليكون دليلا وهاديا في هذه الرحلة.
> أمر علي بن أبي طالب بالنوم على فراشه تمويها للعدو.
> الاستتار بغار ثور، مع الذكر والدعاء.
> شدة اليقين في الله والثقة به، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما.
6- الاستشارة والاستخارة :
لقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه أنه بشر يرضى ويغضب كما يرضون ويغضبون ويخطئ ويصيب كما يخطئ البشر ويصيبون مع عصمة الله له. كل ذلك حتى لا يغالي أصحابه في تعظيمه فيرفعونه فوق مرتبة البشرية كما فعل أتباع الأنبياء السابقين >لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم…<.
وفي سبيل هذه التربية لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بأمر دون استشارة أصحابه، ففي بدر يقف صلى الله عليه وسلم حينما أتاه خبر مسيرة قريش إلى المسلمين فيستشير من معه من أصحابه فيتكلم أبو بكر وعمر ثم المقداد كلاما حسنا فلا يكتفي، ولكنه يظل ينظر إلى القوم ويقول لهم : أشيروا علي أيها الناس، حتى يقوم سعد بن معاذ ويقول مقالته الطيبة، فيقول عند ذلك صلى الله عليه وسلم : >سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم<.
وفي غزوة الخندق قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، وكان صلى الله عليه وسلم يعمل إلى جانب العاملين.
إن هذه الأمثلة وأخرى غيرها كثيرة تبين بجلاء تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه -وهم الدعاة من بعده- على الاستشارة، والاعتراف للمحقين برأيهم، وهذه التربية هي التي تنتج دعاة يحملون التبعات ويستشيرون ويقدرون الآراء ويختارون الأرجح، لا أتباعا يسيرون وراء كل ناعق، قال صلى الله عليه وسلم : >ما خاب من استخار ولا ندم من استشار<.
7- الإيمان بالتكليف وحب الدعوة :
إن من بين شروط صحة التكليف : أن يعْلَم طَلَب الله للفعل حتى يُعتبر طاعة وامتثالا لأوامر الله.
إن الطاعة موافقةُ الأمر، والامتثالُ : جعل الأمر مثالا يحتذى فلابد من العلم بطلب الله تعالى للفعل ليتصور فيه قصد الطاعة والامتثال.
يتضح من خلال هذا الشرط أن استحضار الإنسان أثناء أدائه أمانة الدعوة، وهو مشغول بها، أن ذلك فيه طاعة لله عز وجل وامتثال له، وبالتالي يكون ذلك بمثابة المحفز على العمل والأداء.
إن الإيمان بالتكليف لا يتم إلا بتحبيب الأمانة للمكلّف، وهذا التحبيب إنما يكون بالترغيب في ثو اب الله وأجره ومحبته لعبده ورضاه عنه وهو يمتثل لهذا الأمر، {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}(الكهف : 107- 108).
كما لا يتم الإيمان بالتكليف إلا بالإقناع. والإقناع يحتاج إلى حسن العرض، وبساطة القول، وتوضيح الفهم وبسط للأدلة والحجج، وتعريفٍ بالأمانة قبل التكليف {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}(محمد : 19).
8- القدرة :
القدرة هي سلامة آلات الفعل وصحة أسبابه والمراد بها الوسائط التي بها يحصل المطلوب، مثال ملك النصاب في الزكاة.
وقد اشترط الفقهاء لصحة التكليف أن يكون الفعل ممكنا بحيث يستطيع أن يفعله ويتركه.
ويترتب على هذا الشرط ما يلي :
أ- إنه لا يصح التكليف بالمستحيل عند الجمهور لقوله تعالى : {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}(البقرة : 286)، وقوله تعالى : {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها}(الطلاق : 7)، وقوله تعالى : {ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به}(البقرة : 286).
ثم إن المقصود من التكليف امتثال المكلّف، فإذا كان المكلّف به مستحيلا تعذر على المكلّف الامتثال.
9- الإحسان :
الإحسان بمعنى إتقان العمل وتجويده.
وهو مطلب شرعي، حيث يقول تعالى : {إن الله يامر بالعدل والإحســان}(النحل : 90)، ويقول أيضا : {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}(البقرة : 195).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إن الله يحب إذا عَمِل أحدكم عملا أن يتقنه<، ويقول صلى الله عليه وسلم : >إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته<(رواه مسلم)، ويقول صلى الله عليه وسلم : >إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها<.
يتبين لنا إذن من خلال هذه النصوص أن الإحسان -بمعنى إتقان العمل وتجويده- مطلب شرعي وغاية سامية من الغايات التي دعا إليها الإسلام ورغب فيها وأجزل الجزاء والثواب عليها.
وهو ضرورة واقعية على اعتبار أن دواعي الجودة والإتقان لا تكاد تحصى في عالم اليوم، لأن المنافسة أضحت شديدة مما يدفع بالمنتجين، سواء كان المنتوج سلعة أو فنا أو ثقافة… إلى إحسان عملهم وتجويده حتى يستطيع الصمود أمام التحديات المتنوعة التي تواجهه. والمسلمون كجزء من هذا العالم المتحرك الشديد المنافسة، ليسوا بمنأى عن هذا الواجب الحيوي إذا أراد أن يبلغ مناه ويحقق مبتغاه في المجتمع، وأن يكون في مستوى التحديات التي تواجهه.
إن الإحسان/الإتقان صفة من صفات الكمال، والكمال البشري هو أن يبلغ العبد المؤمن الداعية رضى الله سبحانه وتعالى -بمحاولة استكمال وإكمال كل نقص وعيب- فلا يترك عملا أو أداء إلا أتمه على أكمل وجه حتى يليق بمقام التقرب به إلى الله عز وجل و إلا فلا يلومن إلا نفسه.
10- التخطيط وحسن التدبير :
من قواعد النجاح العظمى -التخطيط- ويراد به : وضع خطة لمواجهة احتمالات المستقبل، وتحقيق الأهداف المنشودة.
والتخطيط يدور على محاور ثلاثة :
1- تحديد الهدف : إذ لابد للإنسان من هدف يسعى إلى تحقيقه، فالسير بغير هدف مضيعة للوقت والجهد، والسائر بدون هدف كربان السفينة الذي لا يعرف أين يتجه، فهو يخبط خبط عشواء ويهيم على وجهه تتقاذفه الأمواج.
2- تحديد الزمن : حيث يتعين جعل مدة زمنية لتحقيق ذلك الهدف.
3- وضع الوسائل والطرق الموصلة إلى تحقيق ذلك الهدف : فإذا لم نعرف الطريق الموصل إلى الهدف، فإننا لن نصل إليه، ولذا يقول ابن تيمية : >الجهل بالطريق وآفاتِها والمقصود يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة<.
وفي القرآن الكريم قصة جعلها الله عبرة لأولى الألباب، وهي قصة نبي الله يوسف عليه السلام، وفيها يطلعنا القرآن الكريم على مشروع تخطيط للاقتصاد الزراعي لمدة خمسة عشر عاما، لمواجهة أزمة غذائية عامة، عرف يوسف من خلال ما ألهمه الله وعلّمه من تأويل الأحاديث، أنها ستصيب المنطقة كلها، وقد اقترح يوسف عليه السلام مشروع الخطة، ووُكِل إليه تنفيذها، وكان فيها الخير والبركة على مصر وما حولها، {تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تاكلون ثم ياتي من بعد ذلك سبع شداد ياكلن ما قدّمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}(يوسف : 47- 49).
11- علو الهمة :
ويبقى العامل المهم في أداء أمانة الدعوة، وهو حفظ الهمة، وكان الجنيد البغدادي يقول : >عليك بحفظ الهمة، فإن الهمة مقدمةُ الأشياء<.
ومن حفظ الهمة، المسارعة إلى الخير، والمبادرة إليه، واغتنام الصحة قبل المرض، والنشاط قبل الفتور، والحياة قبل الموت، والغنى قبل الفقر، يقول صلى الله عليه وسلم : >اغتنم خمسا قبل خمس : حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك<.
ويقول الشاعر :
إذا هبت رياحك فاغتنمها
فإن لكل خافقة سكونا
وقال أحد الصالحين : (إذا فتح أحدكم باب خير فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه).
إن همة المسلم يجب أن تكون أعلى وأسمى، وهكذا كانت مطالب الصحابة رضوان الله عليهم -خير الدعاة ممن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فكل منهم كان في الموضع الأعلى من الرغبة في المعالي، فهذا ربيعة بن كعب الأسلمي أقصى أمانيه عندما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أسألك مرافقتك في الجنة).
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه (يحدد غاية ما يشتاق إلى فعله : الضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام الضيف).
وسيف الله المسلول خالد بن الوليد الذي لا يريد أن تقر عيون الجبناء يقول : (ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس، أنا لها محب، أحبُّ إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية، أصبِّحُ فيها العدو).
د. عبد الله المخلص