الداعية أبي الحسن الندوي
إعلان فريد في تاريخ الرسالات والديانات :
قال الله تعالى مخاطبا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء : 107)، هذا إعلان فريد من نوعه، جاء في كتاب خالد قَدَّرَ الله سبحانه وتعالى له أن يُتْلى في كل مكان وزمان، ويبلُغَ عددُ قرائه ملايين الملايين، وقال عنه : {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لحَافِظُون}(الحجر : 9).
إن سعة هذا الإعلان، وإطاره الكبير، ومساحته بحساب الزمن والمكان، تجعلان هذا الإعلان خارقاٍ للعادة لا يمكن أن يَمُرَّ به الإنسان الواعي مَرّاً عابراً سريعاً، فإن مساحته الزمنية تحوي جميعَ الأجيال، ومساحته المكانيةَ تَسَعُ العالم كُلَّه، فإن الله سبحانه وتعالى لم يقل إنَّنا أَرسَلْناك رحمةً لجزيرة العرب، أو للشرق أو الغرب أو لقارة مِثْلِ آسيا مثلاً، بل إنه قال : {ومَا أَرسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً للْعَالمين}.
الحق إن سَعَة هذا الإعلان وشُمولَه، وعظمتَه وسموَّه، واستمرارَه وخلودَه، كُلُّ ذلك يَقْتضي أن يقفَ عنده مؤرخو العالم وفلاسفتُه، ونوابغُه، وأذكياؤه، حَيارى مشدوهين، بل يقفُ أمامه الفكرُ الإنساني كلُّه حائراً مشدوها، وينقطع إليه كلياً-رَدْحَة من الزمن- يبحَثُ في مدى صدق هذا الإعلان، أو صحةِ هذا الواقع، لأننا لم نجدْ في تاريخ الأديان والنِّحَل، وفي تاريخ الحضارات والفلسفات، وتاريخ الحركاتِ الإصلاحية والمحاولات الثورية، بل في تاريخ العالم كله، وفي المكتبة الإنسانية بأسرها مِثْلَ هذا الإعلان المحيط بالكون كله، والأجيالِ البشرية كلها، والأدوارِ التاريخية بأجمعها حَوْلَ أيِّ شخصية من شخصيات العالم، حتى إن خلاصةَ تعاليم الأنبياء السابقين، ونُبْذةً من أحوالهم وسيرتهم التي وصلتْ إلينا هي أيضا مجردةٌ عن مِثْلِ هذا الإعلان.
بل إن البحث عن مثل هذا الإعلان عن نَبَيٍّ أو وَليٍّ أو مُصلحٍ في غير الديانة الإسلامية عَبَثٌ وإضاعة جهْدٍ ووقْتٍ، الحقيقة أن البحثَ عن نبي يكون رحمةً للعالمين في ديانة لا تحمل عقيدة >رب العالمين< غيرُ معقولٍ وغَيْرُ منطقيٍّ.
قيمة الرحمة التي اقترنت بالبعثة المحمدية كمّا وكيفا :
إن لتقدير شيْيٍْ ووضْعِه في محله المناسب ومكانه اللائق مِقْيَاسَيْن بصورة عامة.
الأولُ مقدارُه وحجمُه الذي يعبَّر عنه في المصطلح الحديث بالكمية Quantity.
والثاني جوهرُه ووصفه الذي يقال له الكيفيَّة Quality.
وهذا الإعلان الذي نادى به القرآنُ يشمَلُ هذين النوعين، ويجمع بين الناحيتين، فإن بعثَتَهُصلى الله عليه وسلم، وشخصهُ العظيم، وتعاليمَه السامية الخالدة، أفاضتْ على الإنسانية مسحَةً جديدة من الحياة والنشاط، وكانت السببَ المباشرَ في شفائها من أسقامها وعلاتها، وفي حل مُعْضلاتها، ونهاية آلامها وأحزانها، وهطول أمطار الرحمة والبركة، واليُمْن والسعادة، والخير والفلاح على أرضها المُجْدِبة القاحلة، وكانت هذه المعْطَيَاتُ المحمدية الغالية منقطعة النظير بحساب السَّعة والوفْرَة، والحجم والكمية Quantity وبحساب النفع والإفادة والجوهر والكيفيةQuality أيضا.
وأكْبَر مظهرٍ من مظاهر الرحمة، وأَرْوَعُ صورةٍ من صورها الجميلة أن ينقذ أحدُنا أخاه من مَخَالِبِ الموت، هناك طفلٌ صغيرٌ بَرِئٌ نراه في حالة الاحتضار، كادَ يلفِظُ نَفَسَهُ الأخير، الأُمُّ تقف إلى جواره تبكي، قد أظلمتْ الدنيا في ناظريْها، وانقطع أملُها في فلذة كبدِها، ومأوى حنانها وحبها، الأبُ يسعى هنا وهناك هائما على وجهه، فلا يجد راقيا وأنيسا، هناك يأتي طبيبٌ حاذقٌ، كما ينزل المَلَكُ من السماء ويقولُ مهلاً… لا دَاعِيَ للقَلَقِ، ولا موجِبَ لليأْس، ولا يُلْقِي في فم الطفل قطراتٍ قليلةً من الدواء حتى يفتح عينيه وينشَطَ، تصوَّرْ ماذا يُقال لهذا الطبيب، أَلاَ يُقَالُ لَهُ :>إنَّهُ مَلَكُ الرَّحمة، أرسله الله لإنقاذ هذا الطفل، وإعادة الحياة إليه؟؟؟ هنالك تتلاشى كلُّ هذه الأنواع من الرحمة التي قدمناها أولا، وتذوبُ أمامَ هذا المظهر الرائع الأخَّاذ من الرحمة، إنها ليست مِنَّةً على الطفل فقط، بل على أسرته كُلِّهَا.
نَرَى أعمى يمشي متوكئا على عصاه، قد شارف هُوّةً عميقةً أؤ بِئْراً، قد تكون خُطْوتُه التالية خطوةَ الموت، فيهرولُ إليه عبدٌ من عباد الله ويأخذ بحُجَزِه ويمنعُهُ عن الوقوع في هذه الهوة، أفَلاَ نسمِّيه مَلَكَ الرحمة؟!
هذا شابٌ يافعٌ، قرةُ عيْنِ أبويه، وكفيلُ عائلته الفقيرة قد أشرف على الغرق في نَهْر فائضٍ يحاول أن يطفو على الماء، ولكن بدون جدوى، فيقفز إليه رجلٌ مجازفاً بحياته، ويأخذ به إلى ساحل النجاة، فيحملُه ربُّ الأسرة أو إخوةُ هذا الشابِّ، على أعْنَاقِهم ويضُمُّونه إلى صدورهم، بحرارة وحُبٍّ، ولا ينسوْن فضلَهُ على أسرتهم الصغيرة مدى الدهر؟ تُرى هل تساوي مظاهرُ الرحمة الأولى، هذه الرحمة العظيمةَ الغالية؟؟!!
البعثة المحمدية أنقذت الجيل البشري من الشقاء والهلاك :
ولكن آخر مظهر من مظاهر الرحمة وقمَّتَها وذِروةَ سنامها، هي أن يُنْقذ رجلٌ الإنسانيةَ كُلَّها من الهلاك، وهناك فرقٌ عظيم بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، ذلك هلاك محدود سطحيٌّ، وخطرٌ عابرٌ قد يزول، وهذا هلاك أبديٌّ، وخطر مستمرٌّ لا يزول، لذلك فإن رحمة الأنبياء بالنوع البشري لا تقاس أبدا على هذه الرحمات، رغم أهميتها وعظمتها.
فما هي أمواج البحر الزاخر بأمواج الأهواء المدمرة؟ ، وما هي تماسيحه الضارية الشرسة؟
إنها الجهلُ عن خالق هذا الكون ورب العالمين، وعن صفاته العليا، وأسمائه الحسنى والوقوعُ في حبائل الشرك والوثنية، وعبادة الأصنام، والاسترسالُ مع الخرافات والأوهام، إنها بلادَةُ حِسّ الإنسانية، وذُهُولُها عن نفسها، وغفلتُها عن خالقها وبارئها.
إنها عبادةُ المادة والمعدة، وتعدِّي الحدود، وانتهاك الحرمات، وسَوْرَةُ النفس الأمارة بالسوء، والتهربُ من أداء الواجبات والحقوق، والإصرارُ على المنافع والحظوظ.
إن أكبر خطر على الإنسانية أن يحدث في بنائها خللٌ، وتحيد لَبِنَتُها الأساسيةُ عن مكانها الصحيح، فينسى الإنسان قيمتَهُ ومداركه، وغايةَ حياته، ويظن نفسه ذِئْباً مفترساً، أو أفْعَى أو ثعباناً، فحين يذهَلُ الإنسان عن هذه الحقائق الكبرى يتحول بحْرُ هذه الحياة إلى نار متأججة، ولَهَبٍ مرتفعة، هنالك يزدردُ الإنسان أخاه، ويفترسُه، ولا يحتاج إلى الثعابين، والعقارب، والذئاب، والفهود… فقد ينقلبُ الإنسان أكبرَ ذئب في هذه الغابة الإنسانية… تخجل أمامه ذئاب، ويتحول شيطاناً مارداً، تستحي منه الشياطين، هنالك يحترق الإنسان، ويُشْوَى في ناره التي أشعلها بنفسه، ولا يحتاج إلى أن يستوردها من الخارج.
في هذه الفترة الرهيبة المظلمة تهُبُّ نفحة من نفحات الرحمة الإلهية، وتُنْعش رفات الإنسانية الخامدة الهامدة، وتزوِّدها بملايين يجدفون سفينتها بنجاح ومهارة.
وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة، فقال في إيجاز وفي إعجاز : {وكنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ من النَّارِ فأنقَذَكُمْ مِنْهَآ}.
وذلك ما شرحه لسان النبوة بمثال رائع بليغ، فقال عليه الصلاة والسلام :
>مثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراشُ وهذه الدوابُّ التي تقع في النار يَقَعْنَ فيها وجعل يَحْجُزُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ، فيقتحمْنَ فيها، فأنا آخِذٌ بحجزكم عن النار، وأنتم تقَحَّمُونَ فيها، وقال في آخرها : فذلك مَثَلِي ومثلكم، أنا آخُذُ بحُجَزِكم عن النار هَلُمَّ عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقَحَّمُون فيها<(متفقه عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه).
الحقيقة التي لا مراء فيها أن هذا الدور الذي نعيشه، وما يليه من الأدوار التاريخية القادمة، كُلُّها في حساب البعثة المحمدية، ودعوتِهِ العامة الخالدة، وجهودِهِ المشكورة المثمرة ، لأنه رفع -أولا- هذا السيف المُصْلَتَ على رقاب الإنسانية الذي كاد يقضي عليه، ثم أغناها بِمِنَحٍ غالية ومعطيات خالدة، وهدايا طريفة جديدة، بَعَثَ فيها الحيوية والنشاط، والهمة والطموح، والعزة والكرامة، والهدف الصحيح، والغاية النبيلة، واستهل -بفضل هذه المِنح والمعطيات- عَهْدٌ جديدٌ من السمو الإنساني، والثقافة والمدنية، والربانية والإخلاص، وإنشاء الإنسان وتكوينه الخلقي والاجتماعي.
مِنَحُ البعثة المحمدية الستة، وأثَرُها في تاريخ الإنسان:
ونذكر الآن -على سبيل المثال لا الحصر- ستة من معطياته الهامة، ومِنَحِهِ الأساسية الغالية التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشري، وإصلاحه وإرشاده، ونهضته وازدهاره والتي خلقتْ عالماً مشرقاً جديداً لا يُشْبِهُ العالَم الشاحِبَ القديم في شيء.
1) عقيدة التوحيد النقية الواضحة :
مَأْثُرته الأولى صلى الله عليه وسلم، أنه منح الإنسانية عقيدة التوحيد الصافية الغالية، فهي عقيدة ثائرة معجزة متدفقة بالقوة والحياة، مقلبة للأوضاع، مدمرة للآلهة الباطلة لم تنل ولن تنال الإنسانية مثلها إلى يوم القيامة.
هذا الإنسان الذي يحمل دعاوى فارغة، ومزاعم جوفاء من الشعر والفلسفة والسياسة والاجتماع ، والذي استعبد الأمم والبلاد مراراً كثيرة، والذي حول الأحجار الصماء أزهارا عبقة فيحاء، وفجر الأنهار من بطون الجبال، والذي ادّعى الربوبية أحياناً، هذا الإنسان كان يسجد لأشياء تافهة لا تضُرُّ ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع، {وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ والمَطْلُوبُ}(الحج : 73) وكان يركع أمام أشياء صنعها بنفسه، ويخافُها، ويرْجُو منها الخير، إنه لم يَخِرَّ ساجداً للجبال والأنهار، والأشجار والحيوانات، والأرواح والشياطين، وسائر مظاهر الطبيعة فحسبُ، بل سجد للحشرات والديدان أيضاً، وقضى حياته كلها بين هواجس ووساوس، وبين أخيلة وأوهام، وأمان وأحلام كانت نتيجته الطبيعية الجُبْنَ والوهَنَ، والفوضى الفكرية، والقلق النفسي وفقدان الثقة، وعدم الاستقرار، فأغناهصلى الله عليه وسلم، بعقيدة صافية نقية سهلة سائغة، حافزة للهمم، باعثة للحياة، فتخلَّص من كل خوف ووجل، وصار لا يخاف أحداً إلا الله، وعَلِمَ عِلْمَ اليقين، أنه وحده، هو الضار والنافع، والمعطي والمانع، وأنه وحده الكفيل بحاجات البشر، فتغير العالم كله في نظره بهذه المعرفة الجديدة، والاكتشاف الجديد، وصار مصونا عن كل نوع من العبودية والرق، وعن كل رجاء وخوف من المخلوق، وعن كل ما يشتِّت البال، ويشوِّش الأفكار، فقد شعر بوحدة في هذه الكثرة، واعتبر نفسه أشرف خَلْقِ الله وسيِّدَ هذه الأرض، وخليفةَ الله فيها يطيعُ ربَّه وخالقه، وينفذ أوامره، ويحقق بذلك هذا الشرف الإنساني العظيم، والعظمة الإنسانية الخالدة التي حُرِمَتْهَا الدنيا منذ زمن بعيد.
إنها البعثةُ المحمدية التي أتحفتْ الإنسانية بهذه التحفة النادرة -عقيدة التوحيد- التي كانت مجهولةً مغمورةً، مظلومة مغبونة.
2) مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية :
ومأثُرَتُهُ الثانية العظيمة، ومنَّتُه الباقية السائرة في العالم هو تصور الوحدة الإنسانية. كان الإنسان موزعا بين قبائل وأمم وطبقات بعضُهَا دُونَ بَعْضٍ، وقوميات ضيقة، وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتاً هائلاً كتفاوُتٍ بين الإنسان والحيوان، وبين الحُرِّ والعبد، وبين العابد والمعبود، لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقاً، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرون طويلة من الصمت المُطْبِق، والظلام السائد، ذلك الإعلان الثائر، المدهش للعقول، المقلِّب للأوضاع : >أَيُّها النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ من تُرَابٍ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ، وَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ على عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلاَّ بالتَّقْوَى<(2).
3) إعلان كرامة الإنسان وسموّه :
والمِنَّةُ الثالثة العظيمة على النوع البشري، هو إعلان كرامة الإنسان وسُمُوِّه، وشرف الإنسانية وعُلُوِّ قَدْرها، لقد بلغ الإنسان قبل البعثة المحمدية إلى حضيض الذل والهوان، فلم يكن على وجه الأرض شيء أصْغَرُ منه وأحْقَرُ، وكانت بعض الحيوانات >المقدسة< وبعض الأشجار > المقدسة< التي علقت بها أساطير ومعتقدات خاصة، أكْرمَ وأعزَّ عند عُبَّادِها، وأجدرَ بالصيانة، والمحافظة عليها من الإنسان، ولو كان ذلك على حساب قتل الأبرياء، وسفك الدماء، وكانت تقدم لها القرابينُ من دَمِ الإنسان ولَحْمِهِ من غَيْرِ وَخْزِ ضَمِيرٍ، وتأنيب قلب، وقد رأينا بعض نماذجها وصورها البشعة في بلاد متقدمة راقية، كالهند في القرن العشرين، فأعاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلى الإنسانية كرامتها وشرفها، ورد إليها اعتبارها وقيمتها، وأعلن أن الإنسان أعَزُّ وجود في هذا الكون وأغلى جَوْهر في هذا العالم، وليس هنا شيء أشْرَفُ وأكرم، وأجدرُ بالحب، وأحَقُّ بالحفاظ عليه من هذا الإنسان، إنه رَفَعَ مكانَتَهُ حتى صار الإنسانُ خَليفَةَ الله ونَائِبَهُ، خَلَقَ له العالَم، وهُوَ خُلِقَ لِله وحده، {هو الذي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}(البقرة : 29) وأنه أشرف خلق الله، وفي مكان الرئاسة والصدارة، {ولقد كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُم في البَرِّ والْبَحْرِ، وَرَزَقْنَآهُم من الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ علَى كَثِيرٍ ممن خَلَقْنَا تفضِيلاً}(الإسراء : 70).
وليس أدل على كرامته والاعتراف بعظمته من قوله صلى الله عليه وسلم : >الخَلْقُ عيالُ الله، فأحَبُّ الخلقِ إلى الله مَنْ أَحْسَن إلى عيالِهِ<(رواه البيهقي).
وليس هنا أبلغ في الدلالة على سمو الإنسانية، والتقرب إلى الله بخدمتها، والعطف عليها، من الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبيصلى الله عليه وسلم قال : >إن الله عز وجل يقول يوم القيامة، يا ابْنَ آدم مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي! قال : يا ربِّ كيف أعُودُكَ وأنتَ ربُّ العالمين، قال : أَمَا عَلِمْتَ أن عَبْدِي فلاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ!أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدتَنِي عِنْدَهُ، يا ابن آدم استطعَمْتُكَ فلم تُطْعِمْني! قال : ياربِّ كيف أُطْعِمُكَ وأنتَ رَبُّ العالمين، قال : أما علمتَ أنه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجدْتَ ذلِكَ عِندي، يا ابن آدم!اسْتَسْقَيْتُكَ فلم تَسْقِنِي، قال : ياربِّ كيف أسْقِيك وأنت ربُّ العالمين؟، قال : اسْتَسْقَاك عبدي فلانٌ فَلَمْ تَسْقَهِ، أما علمت أنك لو سقيتَهُ لوجدتَ ذلكَ عندي<(رواه مسلم في صحيحه).
هل يُتَصَوَّرُ إعلان أوْضَحُ وأفصحُ بسمو الإنسانية، وعُلُوِّ مَكَانَةِ الإِنسانِ من هذا الإعلان وهل فَازَ الإنسانُ بهذه المكانة السامقة، والشرف العالمي في أيِّ ديانة وفلسفة في العالم القديم والحديث؟.
إنه صلى الله عليه وسلم جعل الرحمة على بني آدم الشرطَ اللازمَ لجَلْبِ رحْمَةِ الله، فقال عليه السلام : >الرَّآحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَن، ارْحَمُوا مَنْ في الأرض يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السماء<(رواه أبو داود).
4) محاربة اليأس والتشاؤم، وبعث الأمل والرجاء والثقة والاعتزاز في نفس الإنسان:
المأثرة الرابعة أن أكثر أفراد النوع الإنساني كانوا مُصابين باليأس من رحمة الله، وبسوء الظن بالفطرة الإنسانية السليمة، وكان في إيجاد هذا الجو الخاص، والحالة العقلية الخاصة دور كبير لبعض الديانات الشرقية القديمة، والمسيحية المحرفة في أوروبا، وفي الشرق الأوسط، فقد دانت الديانات القديمة في الهند بعقيدة التناسخ، وفلسفته التي لا مجال عندها في إرادة الإنسان وتصرفه مطلقاً، وأن كل إنسان مضطر لا محالة لنيل عقوبة ما، لما قدمت يداه في حياته الأولى، وذلك بالظهور في شكل سبع مفترس، أو دابة سائمة، أو حيوان خسيس، أو إنسان شقي معذب.
بينما نادت المسيحية بأن الإنسان عاص ومذنب بالولادة والفطرة، والمسيح صار كَفَّارةً وفِدَاءً له عن هذه الذنوب، فأنشأت هذه العقيدة -بطبيعة الحال- في نفوس الملايين في العالم المتمدن المعمور الذين اعتنقوا المسيحية، سوءَ ظَنٍّ بنفوسهم، ويأساً من مستقبلهم، ومن الرحمة الألهية.
هنالك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم، بكل قوة وصراحة: أن فطرة الإنسان هي كاللوح الصافي، الذي لم يكتب عليه بعد، ويمكن أن ينقش فيه أروع نقش، ويحرر فيه أجمل تحرير، وأن الإنسان يستهل حياته بنفسه، ويستحق الثواب والعقاب، والجنة والنار بعمله، وهو غير مسؤول عن عمل غيره، فقد ذكر القرآن في مواضع كثيرة، أن الإنسان مسؤول عن عمله فحسب، وأنه مثاب ومشكور على سعيه : {أأَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وإبراهيم الذِي وفَّى ألاّ تزر وازرةٌ وِزْرَ أُخْرَى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى}(النجم : 38- 40).
5) الجمع بين الدين والدنيا، وتوحيد الصفوف المتنافرة والمعسكرات المتحاربة :
لقد وزعت الدّيانات القديمة خاصة المسيحية الحياة الإنسانيةَ في قسمين، قسمٌ للدين، وقسمٌ للدنيا، ووزعت هذا الكوكب الأرضي في معسكرين : معسكر رجال الدين، ومعسكر رجال الدنيا، وما كان هذان المعسكران منفصلَيْن فحسبُ، بل حال بينهما خليج كبير ووقف بينهما حاجز سميك، وظلاّ متشاكسين متحاربين وكان كل واحد يعتقد أن هناك خصومة وعداء بين الدين والدنيا، فإذا أراد إنسانٌ أن يتصل بأحدهما، لزم عليه أن يقطع صلته بالآخر، بل يعلن الحرب عليه، فلا يمكنه-على حد قولهم- أن يركب سفينتين في وقت واحد، وأنه لا سبيل إلى الكفاح الاقتصادي ورخائه من غير غَفْلَةٍ عن الدار الآخرة، وإِعْراض عن فاطر السماوات والأرض، ولا بقاءَ لحكمٍ أو سلطةٍ من غير إهمال التعاليم الدينية والخلقية، والتجرُّد عن خشية الله، ولا إمكان للتدين من غير رهبانية، وقَطْعِ صلة عن الدنيا وما فيها.
وأعظم هدية للبعثة المحمدية، ومنتها العظيمة وندائها الذي دوت به الآفاق أَنَّ أساسَ الأعمال والأخلاق، هو الهدفُ الذي ينشدُه المرء، والذي عَبَّرَ عنه الشارع بلفظ مُفْرَدٍ بسيط، ولكنه واسع عميق >النية<، فقال : >إنَّما الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإنما لكُلِّ امْرِئٍ ما نوى<(3).
وإن كل عمل يقوم به الإنسان ابتغاء مرضاة الله، وبدافع الإخلاص، وامتثال أمره وطاعته، هو وسيلة إلى التقرب إلى الله، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، ودرجات الإيمان وهو دينٌ خالصٌ لا تشوبه شائبة، ولو كان هذا العمل جهاداً وقتالا وحكما وإدارة وتمتعا بطيبات الأرض، وتحقيقا لمطالب النفس، وسعياً لطلب الرزق والوظيفة، واستمتاعا بالتسلية البريئة المباحة، والحياة العائلية والزوجية.
وكُلُّ عبادةٍ وخدمةٍ دينية -بالعكس من ذلك- تُعْتَبَرُ دُنْيَا إِذا تجرَّدتْ من طلب رضا الله سبحانه، والخضوعٍ لأوامره ونواهيه، وغشيَتْها غاشيةٌ من الغفلة، ونسيانِ الآخرة، ولو كانت صلواتٍ مكتوبةً، ولو كانت هجرةً وجهادا وذكراَ وتسبيحا وقتالا في سبيل الله، ولا يثابُ عليه العامِل، والعالم، والمجاهد، والداعي، بل قد تعود تلك الأعمال والخدمات عليه وبالا، وتكون بينه وبين الله جحابا(4).
إن المأثُرة الخامسة من مآثر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنه ملأ هذه الفجوة الواسعة بين الدِّين والدُّنْيا، وجعل هذين المتنافرين المتباعدين، اللّذين عاشا في خصام دائم، وعِداء سافر، وحقد مستمر، يتعانقان في إلْفٍ ووُدٍّ، ويتعايشان في سلام ووئام، إنه صلى الله عليه وسلم، رسول الوحدة، وبشيرٌ ونذيرٌ في الوقت ذاته إنه أخذ النوع البشري من المعسكرين المتحاربين إلى جبهة موحدة، من الإيمان، والاحتساب، والعطف على البشرية، وابتغاء رضوان الله، وعلمنا هذا الدعاء الجامع المعجز الواسع {ربّنَا آتِنا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرَةِ حسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النار}(البقرة : 201).
إنه أعلن بالآية القرآنية : {إنَّ صلاَتِي ونُسُكي ومَحْيَاي ومَمَاتِي لله رَبِّ العَالَمِين}(الأنعام : 162) إن حياة المؤمن ليست مجموع وحدات متفرقة مضادة، بل هي وحدةٌ تسيطر عليها روح العبادة والاحتساب، ويقودها الإيمان بالله والإسلام لأوامره، وهي تشمل شُعَبَ الحياة كلها، وميادين الكفاح كلها، وأصناف العمل كلها، إذا تحقق الإخلاص، وصحت النية، وأريد بها وجهُ الله وكانت على المنهج الصحيح الذي جاء به الأنبياء فدل ذلك على أنه رسول الوحدة والوئام والانسجام بالكمال والتمام، ، وأنه البشير والنذير في نفس الوقت، إنه قضى على نظرية الانفصال بين الدين والدنيا، فجعل الحياة كلها عبادة، وجعل الأرض كلها مسجدا، وأخذ بيد الإنسان من معسكرات متحاربة متصارعة، إلى جبهة واحدة واسعة من العمل الصالح، وخدمة الإنسانية النافعة، وابتغاء مرضاة الله فترى هناك ملوكاً في أَطْمَارِ الفقراء، وزهاداً في زِيِّ الملوك والأمراء، جِبَالَ حِلْمٍ وينابيعَ علم، عُبَّادَ لَيْلٍ وأحْلاَسَ خَيْلٍ، من غير تناقض أو صعوبة، واختلال أو تعسف.
6) تعيين الأهداف والغايات وميادين العمل والكفاح :
المأثرة السادسة، أو الانقلاب السادس الذي أحدثه محمد صلى الله عليه وسلم، في الحياة البشرية أَنَّهُ هَدَى الإنسان إلى محل لائق كريم يصرف فيه قواه، ورفعه إلى أجواء فسيحة عالية يحلق فيها.
كان الإنسان قبل البعثة المحمدية جاهلا لهدفه الحقيقي، لا يدري إلى أين يتجه، وإلى أين المصير؟، وما هو المجال الأفضل والحقيقي لمواهبه وطاقاته وجهوده؟
إنه وضع لنفسه مقاصدَ وهمية صناعية، وحصر نفسه في دوائر ضيقة محدودة، كانت تستنفد قواه وطاقاته وذكاءه وكان المثلُ الأعلى عنده للرجل الناجح واللامع مَنْ يكون أكثر جمعاً ومالاً، وأوسع نفوذاً وقوة، متحكماً في أكبر مجموعة من البشر، وأوسع بقعة من بقاع المعمورة، كان هناك ملايين لم يزد طموحهم على التمتع بألوان زاهية، وأصوات مطربة، وأطعمة لذيذة، وأكثر من مسايرة الماشية والغنم، والأنعام والدواب، كان هناك آلاف عاشوا دائماً بين بلاط الملوك وحاشيتهم، وبذلوا نبوغهم وذكاءهم في التزلف إلى الأمراء، والتملق أمام الأغنياء، أو الخضوع للجبابرة، والأقوياء، أو التسلي بالأدب الفارغ الذي لا قيمة له في الدنيا والآخرة، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل غايته الأخيرة، هو معرفةُ فاطر السماوات والأرض واطلاعا على صفاته، وقدرته وحكمته، وسعة ملكوت السماوات والأرض وعظمتها وخلودها، والحصول على الإيمان واليقين والفوز برضوان الله وحده، والرضا به وبِقَدَرِهِ، والبحث عن وحدة تُؤَلّفُ بين الأجزاء المتناثرة أحيانا، والمتناقضة أحيانا أخرى، وتنمية قواه الباطنة، ومداركه الروحية، للوصول إلى درجات القرب واليقين، والحث على خدمة الإنسانية، والإيثار والتضحية، والوصول بذلك إلى مكان لا تصِلُ إليه الملائكةُ المقربون، وتلك هي السعادةُ الحقيقيةُ للإنسان، ونهايةُ كماله، ومعراجُ قَلْبِه وروحه
الخاتمة : ولادة عالم جديد، وإنسان جديد :
لقد تغيرت الدنيا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبفضل تلك التعاليم السامية، كما يتغير الطقس، وانتقلت الإنسانية من فصل كله جدب وخريف، وسموم وحميم، إلى فصل كله ربيع، وجنات تجري من تحتها الأنهار، وتغيرت طباع الناس ، وأشرقت القلوب بنور ربها، وعمّ الإقبال على الله، واطلع الإنسان على طعم جديد لم يألفه، وذوق لم يجربه، وهُيام لم يعرفه من قبل
انتعشت القلوب الخاوية الضامرة الباردة الهامدة، بحرارة الإيمان وقوة الجنان، واستضاءت العقول بنور جديد، وسكرت النفوس بنشوة جديدة، وخرجت الإنسانية أفواجاً تطلب الطريق الصحيح ومحلها الرفيع، وتحنّ إلى مكانتها السامقة العالية، فلا ترى أمة من الأمم، وبلداً من البلاد، إلاّ وهو يريد السباق إلى المضمار، ويتنافس فيه، فما ترى العرب والعجم، ومصر والشام، وتركستان وايران، والعراق وخراسان، وشمالي أفريقية، والأندلس، وبلاد الهند، وجزائر شرق الهند، إلاّ سكارى هذا الحب العلوي، والفيض السماوي، وعشاق هذا الهدف السامي، وفقراء على هذا الباب العالي.
———-
1- محاضرة ألقاها المؤلف في 20 من ربيع الثاني 1395هـ(1975/5/2م) في قاعة المحاضرات الكبرى بمدينة لكهنئو-الهند، حضرها جمّ غفير من المثقفين من جميع طبقات الشعب؛ ومن المسلمين وغير المسلمين؛ نقلها إلى العربية الأستاذ محمد الحسني رئيس تحرير مجلة “البعث الإسلامي” وتناولها المحاضر بالتنقيح والتهذيب وبشيء من الحذف و الزيادة..
2- كنز العمال.
3- الحديث الصحيح الذي بلغ عند بعض المحدثين حد الاستفاضة والشهرة، والذي فتح به الإمام البخاري كتابه “الجامع الصحيح”، وتمام الحديث >انما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه<(حديث متفق عليه).
41- كتب الحديث زاخرة بالآثار الدالة على ذلك، أنظر أبواب الأخلاص والنية، والإيمان، والاحتساب.