عبدالكريم غلاب – أكاديمية المملكة المغربية -
يسعدني أن أتحدث إليكم في هذا الملتقى الفيكيكي الثقافي الإسلامي، وأن أختار في الحديث معكم وإليكم، موضوع اللغة العربية في مواجهة التحديات المعاصرة، اخترت هذا الموضوع بالذات لاعتزازنا باللغة التي هي عنوان هويتنا وحاملة مشعل ثقافتنا وديننا، ولأنها في وطننا تعاني ونعاني معها مغبة الجمود والتنكر إن لم نقل الغرر والإهمال.
الواعون من بين مثقفينا يدركون الدور العظيم الذي تقوم به اللغة في الحفاظ على كيان الأمة وسلامتها ونموها الإسلامي والفكري والثقافي، فالواعون من أمتنا يعودون إلى ماض هذه اللغة منذ كانت لغة القرآن، فاستطاعت بهذا الشرف الإلهي أن تحمل إلى قراء القرآن -مسلمين وغير مسلمين -أعظم المفاهيم الإلهية والإسلامية والفكرية، وأسمى القيم الأنسانية، وأقوى الأحاسيس الغيبية والقلبية والضميرية، وأجمل تعبير عن علاقة الإنسان بالله وبأخيه الإنسان، وأروع أداء لكل ما تحفل به الدنيا من مباهج، وما يعترض الإنسان من زيغ وانحراف، بمقدار ما تعبر عنه الحياة الأخرى وما ينتظر الإنسان فيها من جزاء، وهي الحياة البديل التي تمنح حياة الدنيا حقيقتها ومصيرها…
اللغة العربية أصبحت -لأنها لغة القرآن- حاملة لكل عبقريات الفكر الإنساني في العلم والمعرفة في الثقافة والآداب، في الفن، والأداء الجميل عن الأحاسيس الجميلة والقيم السامية التي تمنح الإنسان قيمته كإنسان طافح بالحياة والحيوية.
من حسن حظ معظم الشعوب الإسلامية أنها ورثت هذه اللغة وهي من أجمل لغات الدنيا وأحفلها بالمفاهيم والمضامين وإذا كان مثقفو العربية في العصور المزدهرة التي كان الإسلام مصدرها قد حافظوا على هذه اللغة متنا ودراسة واستعمالا، واعتبروها مقدسة تأخذ قداستها من القرآن،وقيمها من العلم، كما اعتبروها لغة الأداء الجميل للعلوم والمعارف والآداب، فإن الذين بقيت هذه اللغة مخلصة في انتمائها لتكون لغتهم يصلون بها خمس مرات في اليوم، ويعبرون بها عما كان يعبر عنه أسلافهم من ضروب العلم والمعرفة، إن هؤلاء تنكروا لكل هذا الشرف الذي كان من حظهم أن ورثوه، فأهملوا لغتهم لصالح لغة أجنبية في المدرسة والإدارة والحياة العامة، حتى أصبحت قيمة مضافة عند المثقفين والعاملين في الحقل العلمي والإداري وتسيير الشأن العام، هذا أكبر تحد تواجهه العربية في عصرنا الحاضر.
وإذا تذكرنا أن هذا التحدي هو راسب من رواسب الاستعمار،وأننا ورثنا من الاستعمار لغته التي ركزها في المغرب -كما في بعض البلاد الأخرى التي وقعت تحت نفوذه- فإننا ندرك أن هذا التحدي لا يلحق اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية فحسب، لكنه يلحق الهوية العربية الإسلامية الوطنية للوطن وللمواطن المغربي.
إننا بإهمالنا للغة العربية على نحو ما عرفنا، نساهم مع الاستعمار لطعن هويتنا العربية المغربية، وبعد تحقيق الاستقلال لم يبق الاستعمار مسؤولا عن المساس بهذه الهوية، ولكن المسؤولية في ذلك تعود إلينا، وتحَمُّل هذه المسؤولية خطير أمام الله والدين والوطن والتاريخ.
التحدي الثاني أننا -نحن العرب جميعنا- لا نعمل للرقي بهده اللغة وتطوير التعبير بها عن كل المفاهيم العلمية الجديدة والتقنيات والمخترعات الجديدة، التي تبتكر يوميا فينتقل إلينا منها ما ينقل بلغاته المطورة: الانجليزية والفرنسية والألمانية..الخ. وبذلك تبقى لغتنا مهمشة في ميادين العلم والتقنيات والحضارة المتطورة وذلك سبيل لموت اللغة والقضاء عليها وتحييدها من أن تقوم بدورها في الحفاظ على الهوية وعلى أدائها الإسلامي والفكري والثقافي عموما.
هناك تحد آخر تتعرض له اللغة العربية في المغرب هو اصطناع الصراع بين العربية والأمازيغية : لقد أنقذ الله المغرب بما تعرضت له بعض البلاد العربية من الصراع الطائفي والعرقي. نحن في المغرب كلنا مسلمون لكنا عرب أمازيغيون التداخل بين العرب والأمازيغ منذ جاء الإسلام، وليد اللغة العربية والأمازيعية منذ كان الإسلام. نحن نقر اللغتين كعمق من أعماق الهوية المغربية، ولا صراع بينهما كل منهما يحتفظ بدوره الحضاري والثقافي والفكري، وكل منهما يقدم لهذه البلاد ما عنده من تراث علمي وفكري وثقافي وإسلامي، ولا مجال للصراع الذي ينتهي إلى صراع عرقي ينتهي بمثل ما انتهى إليه في بعض البلاد العربية والإسلامية التي تعيش أحيانا في حرب أهلية بسبب الجهل الذي أدى إلى الصراع بين المذاهب الإسلامية داخل العقيدة الإسلامية، وبين المسلمين وغير المسلمين داخل الوطن الواحد نحن أمة واحدة يجب أن نتوحد حول لغة عالـمية واحدة تحفظ كياننا ووحدتنا وهويتنا الموحدة، مع المحافظة على لغة الخطاب لكل جهة تختار لغة الخطاب فيها مع تنمية اللغتين العربية والأمازيغية حتى تؤدي كل منهما الرسالة المنوطة بها ولا ندخل في صراع مصطنع تستفيد منه اللغة الأجنبية على حساب اللغتين بها.
اللغة الأجنبية في المغرب قوية ومدروسة، وتنفق الدولة المستعمرة السابقة زخما من الأموال وتوظف كثيرا من الأطر المتعلمة - حتى المغاربة منهم – مع تنميتها ونشرها على حساب الأمازيعية والعربية. يظهر ذلك من التعليم -والعالي منه بصفة خاصة- وفي الدوائر الحكومية والإدارية والإدارات والشركات الخصوصية ومجموع المعاملات اليومية.
الصراع لَنْ تستفيد منه العربية ولا الأمازيعية، ولكن يستفيد منه الخصم الموحد ضدهما ولذلك علينا أن ندرس الموضوع بعقلانية وتبصر في المصلحة العامة للوطن والمواطنين.
التحديات كثيرة وعلينا أن نحذر ونتبصر في مصلحة بلادنا ومواطنينا، فاللغة لم تكن وسيلة للتعبير فحسب، ولكنها قيمة جوهرية في عمق الفكر، وقد عبرت بالبيان الواضح الشافي عن هذه الفكرة في كتاب ” من اللغة إلى الفكر” وأنا سعيد أن أردد بعض هذه الأفكار في هذا التجمع الثقافي الإسلامي الذي أعتز بالساهرين عليه وأتمنى لنتائجه كل نجاح وتوفيق
—
(ü) عرض قدم في ملتقى فيكيك الرابع لخدمــة القرآن والسنــــة المنعقد أيام 10 و11 و12 أبريل 2008م، في موضوع: “اللغـــة العربيـــة والتحديات المعاصرة”.