حرص الإسلام حرصا كبيرا أن يتسلح كل مسلم بسلاح العلم في المقام الأول، ثم بالعمل بعده من غير تفريق بينهما. فالأول سائق للثاني، وكل واحد منهما بغير الآخر لا يكون، أو كما قيل : “العمل والد، والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية”.
ولا يكون المرء من العاقلين أولي الألباب، ومن الناجين يوم الحساب، إلا إذا علم وعمل بما علم. وفي تعريف العلم والعمل قال ابن القيم : “العلم نقل صورة المعلوم من الخارج، وإثباتها في النفس، والعمل نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج”(1).
ولتأكيد ارتباط العلم بالعمل عقد البخاري رحمه الله بابا في صحيحه سماه : “باب العلم قبل القول والعمل قال تعالى : {فاعلم أنه لا إلاه إلا الله}، قال ابن المنير : أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل”(2).
وكان الإمام البخاري مولعا بطلب العلم، شغوفا به في يقظته وكذا في نومه، قال الحافظ ابن كثير : “ولقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى حتى يتعدد منه ذلك قريبا من عشرين مرة”(3).
وهكذا كان السلف الصالح من أمتنا حريصين كل الحرص على أن لا يمر يوم من أيامهم دون أن يتعلموا أو يكتبوا فيه شيئا، وإلا عدوا ذلك اليوم ضائعا. وفي ذلك روي الأثر : “إذا أتى علي يوم لم أزدد فيه علما يقربني من الله عز وجل، فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم”…
وعن الفقه أو العلم الذي يطلب من المسلم نيل القوة فيه، فلابد من الإشارة إلى أنه العلم الذي يورث خشية الله، ويزهد في الدنيا، ويقرب من الآخرة. يقول ابن قدامة المقدسي : “واعلم أنه قد بدلت ألفاظ وحرفت، ونقلت إلى معان لم يردها السلف الصالح، فمن ذلك الفقه، فإنهم تصرفوا فيه بالتخصيص بمعرفة الفروع وعللها، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول منطلقا على طريق الآخرة، ومعرفة حقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب”(4).
وإذا كان المسلم مطالبا بتحصيل العلم، ونيل نصيب وافر منه طاعة لله ولرسوله، واستزادة من العمل الذي يترتب عليه، فإن حاجة الداعية لهذا العلم أكبر من حاجة غيره له لما يتطلبه مقامه، ومهمة البلاغ التي نذر لها نفسه ووهب لها جهده. فلا دعوة بغير معرفة، ولا تعليم من غير علم. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : >تعلموا قبل أن تسودوا<، وفي الحديث : >نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها..<(الهيثمي في مجمع الزوائد).
والناس في العلم والعمل فريقان : فريق له القوة العلمية، وفي علمه سعة وبسطة إلا أن بضاعته في العلم قليلة، ومعرفته بالشرع ضئيلة، وهو الأمر الذي أكده الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عندما قال : “وقد أسفت -كما أسف غيري- لصنفين من الناس : صنف تلمس في قلبه عاطفة حارة، ورغبة في الله عميقة، وحبا لرسوله باديا، ومع ذلك تجده ضعيف البصر بأحكام الكتاب والسنة.. وصنف تلمس في عقله ذكاء، وفي علمه سعة، وفي قوله بلاغة، يعرف الصواب في أغلب الأحكام الشرعية، لكنه بارد الأنفاس، بادي الجفوة، غليظ القلب(5).
وفي إطار الدعوة، يجب التنبيه إلى أن حماسة الداعية المجردة من العلم تكون لها العواقب الوخيمة على الدعوة والدعاة، لذلك كان العلم من أهم ما ينبغي على الداعية صاحب الحركة الدائبة أن يتسلح به، وإلا كانت حركته قليلة النفع إذا لم تكن عديمة النفع”(6).
ومما ينبغي على الداعية أن يحذره : مخالفة علمه لعمله، أو العلم من غير عمل لأن “العلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصرا على العلم، كان العلم كلا على العالم، ونعوذ بالله من علم عاد كلا، وأورث ذلا، وصار في رقبة صاحبه غلا”(7).
وفي الحديث قال الرسول صلى الله عليه وسلم : >ويل لمن لا يعلم، وويل لمن علم ثم لا يعمل (ثلاثا)<(أبو نعيم في الحلية).
الخلاصة أن المسلم عامة، والداعية خاصة ينبغي عليهما أن يجمعا بين العلم النافع، والعمل الصالح، وأن ينالا القوة فيهما معا؛ فآفة العلم أن لا يثمر عملا، كما أن آفة العمل أن يتجرد عن العلم.
ذ. المصطفى الناصري
————–
1- الفوائد، ص : 116.
2- انظر : فتح الباري 212/1.
3- البداية والنهاية 15/11.
4- مختصر منهاج القاصدين، ص : 18.
5- الجانب العاطفي من الإسلام، ص : 11.
6- انظر المصفى من صفات الدعاة -عبد الحميد البلالي 28/2.
7- اقتضاء العلم العمل، البغدادي، ص : 19.
> من كتاب ومضات على طريق الدعاة