ذ عبدالحق اليوبي
أما بعد :
فيا أمة الإسلام سنعيش مع الحق المبين ومع خروج الروح وأهوال الموت والقبر وأوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله تعالى وطاعته {واتّقُوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كُلُّ نفس ما كسبتْ وهم لا يُظْلمون}.
أيها الإخوة والأخوات قبل أن ندخل إلى هذا الموضوع الهام وإلى هذه الحقائق الثّابتة العلمية لابد وأن أقول لإخواني عليهم أن يتابعوا هذا الأمر بآذان قلوبهم وأن يُقفِلوا الهواتف إذ عليهم أن يحترموا بيت الله عز وجل، والإنسان معذور إذا أصابه النسيان ولكن إذا تذكَّر فعليه أن يغلق هذا الهاتف حتى لا يشوش على إخوانه وعلى المصلين.
فهذا الموضوع أيها الأحبة، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر أو ملحد لأن فيه ردا قاطعا على الملحدين الذين يكذبون بعالم البرزخ، فهيا بأرواحنا إليه، وعلينا أن نترك الأهل والأولاد والدنيا بما فيها وأن نعيش مع هذا الموضوع لأنه علميٌّ منطقيٌّ ومأخوذ مِن وحي الرحمان.
عباد الله : لقد أصبح موضوع القبر وما بعد الموت يشكل أهمية كبيرة في تقويم السلوك الإنساني، خاصة في هذا العصر الذي يتسم بالمادية والنفعية، وعلى كل مجتمع أن يعتقد أفراده أن الحياة الدنيا هي المحطة الأولى والأخيرة في وجود الإنسان فيدفعه ذلك إمّا إلى العَبِّ منها لأقصى ما يمكنه، وما يتبع ذلك من ظلم واعتداء للإنسان على أخيه الإنسان، وإمّا إلى القنوط وترك ما فيها تماما، وقد يؤدي ذلك إلى الإنتحار، لذلك حرص الإسلام على التأكيد على أهوال القبور وما بعد الموت وأن هذه هي المحطة الأولى من محطات الآخرة، ليكون ذلك دليلا يوميا وحثّاً على الإستعداد للحياة الأخيرة، خصوصا وأن المجتمع بكامله -إلا قليلا منهم- لا يرون ذلك رأي العين على عكس حال أصحاب رسول الله الذين كانوا يتفاعلون مع الآيات القرآنية والآيات الكونية والآيات الغيبية حتى قال قائلهم، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يتضاغَون فيها، فقال له الحبيب محمد عرفْتَ ياحارث فالْزم، وقال قائلهم أيضا يا رسول الله عندما تحدثنا عن الجنة والنار فكأنما نراها رأي العين، وهم الذين قال الله فيهمم {والذين يؤمنون بالغيب ويقمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هم المفلحون}.
عباد الله : إن الصلة بين الحي والميت صلة قوية وشديدة وكبيرة، وخاطئ كل الخطأ من يظن أن الموت حُكْمٌ بالإعدام، أو أن الموت هو نهاية المطاف، وأن الإنسان يعيش مرة واحدة، إلى غير ذلك مما يردده الماديون، الغافلون، الضالون المضلون المكذبون، المنحرفون، الملحدون.
فالحقيقة التي بينها الله بكلامه، وعلى ألسنة أنبيائه ورسله، هي أن الموت مرحلة انتقال من عالم الفناء إلى عالم الخلود والبقاء. الموت، انتقال من جوار الخلق إلى جوار الحق سبحانه وتعالى والذي أوقع الماديين في هذه الهوة السحيقة من الضلال هُو فَهم الموت على أنه انطفاء الحرارة وتحلل الرطوبات {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} وقالوا ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، حيث قاسوا الغائب على المشهود، وطلبوا المحسوس لغير المحسوس، وهنا زلَتْ أقدامهم وأقلامهم وانفلت خيالهم، فإن من يطلب المحسوس في غير المحسوس يعْمَى عن المحوس كعمَى عين الخفافيش عن رؤية الأجسام البينة لنا في ضوء الشمس، لأنه لا يبصر في الشمس.
وهل نحن أبصرنا قوانين هذا الكون؟ وهل وقعت أجزاؤه تحت حسِّنا؟ وهل يكذب الإنسان المرض الذي يؤمن به ويشعر به ولا يعرف شكله ولا لونه؟
وهل رأينا العقل والنفس؟ وهل رأينا الأشعة فوق البنفسجية أو تحت الحمراء؟ هل أدركنا حقيقة المغناطيسية أو الجاذبية، أو الأوكسجين، أو ثاني أوكسيد الكربون، أو حقيقة الضوء أو حقيقة الأثير؟ وهل وقعت أيدينا على هذه الحقائق الماثلة في هذا الكون الرحيب؟ وإذا كنا لم ندرك حقيقة هذه الأشياء وهي محسوسة، موجودة، فكيف تصل عقولنا إلى أن نقيس عالم البرزخ أو نحلله في المختبرات، لنقول بعدَ ذلك نحن نؤيد أو نؤمن أو نصدق، وهل القرآن الكريم وُضع في المختبرات حتى يعترف به هؤلاء الجهلة أو هؤلاء الذين يجهلون أنفسهم ويجهلون ما حولهم ولا يعرفون إلا النظرة اليسيرة، من هذه العوالم التي نراها ونسمع عنها، وهكذا سائر المُغَيّبات أو الغيْبيات اليقينية التي صدقتها العقول السليمة، وتفاعلت معها العقول الراجحة، قال تعالى : {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تُبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون} {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذّكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم}.
فالأحكام في هذه الدار أي في الدنيا تجري على الأجسام، والروح تابعة للأجسام، والروح تتعب بتعب الجسد والأمثلة على ذلك كثيرة، فالذي يتعرض للضرب والإعتداء والسجن والجوع والعطش والبرُد والحر وغير ذلك، مما يتضرر منه الجسد، والروح تتعب مع الجسد، فالنفس تتضايق وتتعب مع الجسد.
وأما عالم البرزخ، فإن الأحكام تجري على الأرواح، والأجسام تابعة للأرواح، ولهذا فإن عالم البرزخ أكبرُ من عالم الدنيا بملايير المرات، ومثَلُ ذلك كَمَثَل الجنين في بطن أمه، يعتقد أنه يعيش في عالم كبير وهو لا يعرف عن العالم الذي سيخرج إليه بعدَ ذلك شيئا، ويجهل العالم الذي هو فيه، ولا يخرج من عالم الأرحام إلى هذه الدنيا إلا بأوجاع وآلام وربما بعملية جراحية، وإذا مرت به مراحل وأطوار ورأى هذا العالم تساءل في قرارات نفسه وقال : أمِنَ المعقول أنني كنت يوما من الأيام في بطن أمي! في الوقت الذي لا يستطيع أن يرجع مرة أخرى إلى الرحم الذي خرج منه.
كذلك الدنيا مع عالم البرزخ، فعالم البرزخ عالم مستقل بذاته أكبر من عالمنا هذا وهو عالم الأرواح، والأجسام تابعة لتلك الأرواح، والله تعالى يقول في الروح {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} فعالم البرزخ هو بحر لا ساحل له ولا يستطيع سباح ماهر أن يسبح فيه، فإدراك عالم البرزخ ليس مجاله الحس، يعني الأمور المحسوسة، ولذلك فالعقل يقف عاجزا أمام عظمة هذا العالم عالم البرزخ، لأنه عالم عظيم، جمع الله فيه الأولين والآخرين. فالطريق الوحيد للوصول إلى معرفة هذا العالم الكبير الذي ينتظرنا جميعا، ليس عن طريق الإعلام ولا الأقلام ولا الأفكار ولا الأوهام ولا الأفهام ولا مجرد كلام، إنما طريقة معرفته بالوحي المعصوم، والإيمان الراسخ في القلوب، فالموت أمر متعلق بالروح لأن الذي يموت هو هذا الجسد، هذا الجسد انتهت صلاحيته وأصبح لا يصلح لهذه الروح، فأُذن لهذه الروح أن تخرج من هذا الجسد إلى عالم آخر، ولا بد لهذه الروح أن تخرج من هذا البيت ألا وهو الجسد، البيت المعقد الذي أسكنها الله عز وجل فيه ولفترة معينة، من الشهور الأولى بعد النطفة ثم العلقة ثم المضغة إلى أن خرج إلى الدنيا.
والروح عندما دخلت الجسد دخلت بعقدة وعهد كما يدخل إنسان إلى بيت زعيم أو رئيس أو أمير بعقدة وعهد، وعندما تنتهي المدة يخرج من بيت الزعيم أحب ذلك أم كره ولله المثل الأعلى.
كذلك الروح تخرج من الجسد وهذا ما قاله المولى سبحانه {وكذلك تُخْرجون} أي وكذلك تخرجون من هذا العالم إلى عالم البرزخ لذلك كان أمر الموت متعلقا بالروح، وحقيقةُ الروح لا يعرفها إلا خالق الروح لذلك قال الله تعالى : {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} والروح تتعلق بالبدن في خمس محطات :
التعلق الأول : تعلق الروح بالبدن في عالم الأرحام، فبعد النطفة والعلقة فالمضغة، ينفخ الله عز وجل فينا الأرواح قال الله تبارك وتعالى {ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلَقَه وبدأ خلْقَ الإنسان من طيين ثم جعل نسْله من سُلالة من ماءٍ مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحِه وجعل لكم السمع والأبصار قليلا ما تشكرون وقالوا أئِذا ظَلَلْنا في الأرض إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون، قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم ثم إلى ربّكم ترجعون}.
والتعلق الثاني : بالبدن في هذه الدنيا حيث تقوم ببث الحياة فيتصرف البدن ويباشر أعباء الحياة، قال الله تبارك وتعالى : {ثم أنْشأْناهُ خَلْقاً آخر فتباركَ الله أحسنُ الخَالِقِين}.
والتعلق الثالث : تعلق الروح بالبدن عند النوم، عندما ينام الإنسان فإنها وقتذاك يكون لها أدوار خاصة تخرج وتسبح في عالم الفضاء أو في عالم الملكوت، والنوم موت أصغر والله تعالى يقول : {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليُقْضى أجلٌ مسمَّى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون}.
والنبي يقول في الحديث المشهور : >والله إنكم لتموتون كما تنامون<، والله عز وجل يقول : {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
والتعلق الرابع : تعلق الروح بالبدن بعد الموت في عالم البرزخ قال الله تبارك وتعالى :{حتى إذا جاء أحدَهُم الموت قال ربّ اجعون لعلِّيَ أعملُ صالحا فيما تركت كَلاَّ إنها كلمة هو قائِلُها ومن ورائهم برْزَخٌ إلى يوْمِ يُبْعَثُون}.
والتعلق الخامس : تعلق الروح بالبدن يوم القيامة بعد البعث.
والأحكام في حياة الآخرة تجري على الأرواح والأبدان قال جل جلاله : {ثم نُفِخَ فِيه أخْرَى فإذا هم قيامٌ ينْظُرون وأشرَقَتِ الأرضُ بنورِ ربّها ووُضِع الكِتابُ وجِيءَ بالنّبِئين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يُظْلَمُون}.
وقال عز من قائل : {ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} ومن تأمل في هذه التعلقات التي ذكرناها نلاحظ أنّ كل مرحلة من هذه المراحل هي أوسعُ أُفُقاً وأرحب منزلة عما قبلها؟ وتنتقل من عالم إلى عالم أوسع وأكبر وأعظم من الذي قبله، ولذا قيل في الأثر إن خروج المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كخروج الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة وكرامة.
هذه أهوال أولى فكيف نتقيها؟!
العلاج : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولْتَنْظُر نفسٌ ما قدَّمتْ لغَدٍ واتَّقُوا الله إنّ الله خبِيرٌ بما تعْملُون}.