مفهوم التقصير في الدعوة إلى الله.
إذا ثبت أن الدعوة واجبة على الفرد والمجتمع، وأن لها أفضالا وثماراً، صح أن نجعلها هما يؤرق بَالَنَا ووجداننا ووظيفة مستمرة تقي الإنسان والمجتمع من كل المهالك ولذلك كان التقصير فيها، ذا أثر سلبي على الذات والمجتمع معا.
فالتقصير في الدعوة هو عدم جعلها هما دائما يؤرق صاحبه، وهو ضعف بذل الوسع في التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مظاهر التقصير في الدعوة إلى الله.
بالرغم من عظم مسؤولياتها إلا أننا قد فرطنا فيها، واستهنا بأمرها، ولم نرعها حق رعايتها، فكان من ذلك التقصير الحاصل في طلبها.
ومن مظاهر التقصير في الدعوة إلى الله:
1- الانكماش على النفس: وهو الاعتقاد بأن صلاح الذات هو المطلوب، ويكفي أن نسأل هل انكمش الرسل على أنفسهم؟ وهل تركوا المجتمع وانزووا على ذواتهم؟ فالبعض -وبعدما تتسرب سنوات العمر من بين يديه- يكتشف أنه كان شخصا عاديا، ولم يفعل في حياته ما يجعل الآخرين يتذكرونه بعد مماته.
2- اختلال ميزان الأولويات: وهو تأخير الدعوة إلى الله في سلم الهموم اليومية والحياتية للمؤمن، ونحن ندري ونعلم أن صلاح الحال يقتضي المجاهدة لإقامة الدين. وما كان كذلك كان حقه التقديم. فكيف نؤخر أمرا قدمه الله، وجعل فيه خيرية هذه الأمة، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله}(آل عمران : 110).
3- ضعف المبادرة الفردية أو انعدامها: الناتج عن التكاسل عن القيام بالواجبات وعدم العمل بالمقولة: “بادر ولا تنتظر”. فبادر إلى الأعمال التي تجعلك تحقق السبق وتضعك في أوائل الصفوف لبناء شخصية فاعلة، تؤمن بالمبادرة والسبق كطريق للنجاح قال تعالى : {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} فطالما أن مناط التكليف فردي فعليك نفسك ولا تنتظر الآخرين، كما أن الحساب يوم القيامة سيكون فرديا، فضلا عن أن المبادرة الذاتية تعدُّ من أول الواجبات، والتقاعس عن أدائها تفريط في الأمانة.
4- خسارة الأفراد وتآكل العاملين في حقل الدعوة: فكما أن النبات يمتص الماء والأملاح ليبقى ويشتد عوده، كذلك ومثال للجماعة التي أخذت على عاتقها هم الدعوة إلى الله، ففي غياب العمل الجدي والمستمر في التأهيل التربوي، لا بد وأن ينفض الأشخاص من حولك، فاعلم أن من حق المجتمع عليك تبليغهم دين الله، وإيصال الخير الذي أراده الله لهم وهيأك إليه وكلفك بتبليغيه.
5- كثرة العتاب والتلاوم: وفي حقيقة الأمر على المؤمن التجرد والابتعاد عن هذا الخلق لأنه يخلق نوعا من المشاحنة، ويؤدي إلى تبديد الطاقة إلى التوكل.
6- ضعف الإقبال والانخراط الكلي في عملية تربية الناس على منهج الله عز وجل الذي خطت معالمه سنة النبي صلى الله عليه وسلم: يقول تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}(آل عمران : 31).
7- التنازل عن المبادئ: فلننظر لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال كلمته المشهورة التي هي مثال الثبات على الحق والاعتزاز به مهما كانت الإغراءات ومهما لمعت الدنيا أمامه ببريقها وزخرفها.. >والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، لا أتركه حتى يظهره الله أو أهلك دونه< فإذا فشا التنازل عن المبادئ عند الدعاة فشا فيهم التقصير في الدعوة وانعكس على مردوديتهم سلبا :
البدر والشمس في كفيك لو نزلت
ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة
يذوب في ساحتها مليون جبار
أسباب التقصير في الدعوة إلى الله:
إذا كان للتقصير في الدعوة إلى الله مظاهر جلية، فإن للتقصير في الدعوة إلى دين الله أسباب نجملها في:
1- ضعف الهمة: وسببه ضعف الإيمان، والركون إلى الدنيا، أو كثرة تعرض المرء للفتن والانسياق وراءها، وعدم الوقوف أمامها بحزم وعزم، والنتيجة عدم إنكار المنكر، واليأس من تكرار النصيحة.
2- سيادة العقلية التبريرية: بدواعي ضيق الوقت، وكثرة الأشغال، وننسى أن التبرير الذي يعطل الواجب يثبط العزائم، وهو داء عضال يؤدي إلى ترك الإنسان للدعوة وتعطيل وظائفها.
3- عدم الاستعداد لمواجهة معوقات الطريق: البعد عن مجالات الدعوة المهمة خوفا من التبعات وتحمل الأعباء. الدعوة طريق مليء بالبلاء تعترضه عقبات. طريق الدعوة مليء بالأشواك قد يلحق الأذى بالداعية أو بأحد أهله أو أسرته أو بماله ووظيفته، مما يجعله يستسلم ويترك هذا المجال، ولا يستطيع الصبر والتضحية. ولكن آخر هذا الطريق نعيم مقيم.
4- صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والاهتمامات الدنية: فتجدهم يفترون حماس وطاقة أولئك الذين لهم هم الدعوة، ويفرغون الدعوة إلى دين الله من محتواها. فيكون الإنسان مقلدا لا يبتكر ولا يطور شيئا من حوله.. فالتقليد الأعمى والانصهار المسرف في شخصية الآخرين وأد للمواهب وقتل للإرادة وإلغاء للتميز.. والرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من خالط المثبطين من المشركين والمنافقين واليهود والنصارى لكنه كان مؤثرا لا متأثرا.
فارق تجد عوضا عمن تفارقه
في الأرض وانصب تلاقي الرشد في النصب
5- الركون إلى الدنيا: الانشغال بالدنيا وملذاتها يجعل طريق الدعوة شاقا، مزعجا لا يستطيع المرء تحمله، وكلما انغمس الإنسان في الدنيا في التجارة وحب الأولاد والأهل مؤثرا كل ذلك على الدعوة، ازداد بعدا عن طريق الدعوة، والنفس بطبيعتها تحب الراحة والدعة وتكره التعب والنصب. فعلى المسلم أن يعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، ولقد أمرنا الله ألا نركن إلى هذه الدنيا، فإنما هي متاع، والآخرة هي دار البقاء والقرار، كما حثنا على التزود من الطاعات والأعمال الصالحة والصبر لأن الدعوة إلى الله تحتاج التزود في مسارها الشاق.
6- ضعف التربية الذاتية: تتجلى في الغفلة عن العناية بالنفس ورعايتها بتقوية إيمانها، بقوة التقرب إلى الله، والاستعانة به في السراء والضراء، وصدق اللجوء إليه بأن يعينه، ويوفقه في مسيرته، والتكثيف من الاطلاع على القرآن والسنة، وأما إهمالنا إياها والاعتقاد بأن الدعوة إلى الله تكون بغيرهما، فإن هذا من أسباب الفشل والخذلان، إذ أن الداعية البعيد عن القرآن والسنة لا يستطيع أن يربط المدعوين بالله ورسوله.
7- ضعف الالتزام بالمفردات التربوية والحلقية والإيمانية التي دعا إليها الدين الإسلامي وعدم الالتفات إلى إعمال كل الوسائل الخادمة لها.
8- الاستعاضة بتربية القنوات الفضائية عن التربية الأرقمية: والمطلوب في هذا الأمر الاستئناس فقط، لأن التربية تحتاج لبرامج وطاقات تكون بجانبك، تؤازرك على الحق. أما أن تستعين بالتربية عن بعد فإن ذلك كثيراً ما يشوش على منهجك بكثرة من تتلقى عنهم.
آثار التقصير في الدعوة إلى الله
1- على مستوى الفرد: كل دعوات الرسل والأنبياء انطلقت بالأفراد لكن ما لبثت هذه الدعوات أن تحولت إلى أمم تحمل مشروعا رساليا للإصلاح، وأفضل نموذج هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي انطلق في جزيرة العرب بمفرده فما مرت 23 سنة، حتى حج معه 120 ألفا أو يزيدون، أي بمعدل 5695 في كل سنة. فيا أيها المسلم فحاسب نفسك دوما وقل لها : كم دعوت؟ وكم استجاب لك؟ إذا التقصير في الدعوة له آثار على الفرد نذكر منها:
> فساد الفرد : المسلم كنبع الماء كلما جرى وتحرك طاب وعذب وكلما انحسر وركد فسد. كثيرا ما تمر على الإنسان مواقف يختبر الله فيها قوة إيمانه ومدى عزيمته وصموده أمام شهواته وملذاته ومقاومته لنفسه الأمارة بالسوء فيعجز ويضعف.. ولا يستطيع أن ينكر منكرا أو يأمر بمعروف. ونحن غافلون أن هذا هو سبب فلاحنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة يقول تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هو المفلحون}(آل عمران: 104).
إني رأيت وقوف الماء يفسـده
إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
> لحوق غضب الله وعقابه بالفرد : إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعصمه ولا يجيره أحد من الله إن هو قصر في الدعوة إلى الله، فهل يجير غيره أحد أو يعصم غيره أحد؟ قال تعالى: {قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحد إلا بلاغا من الله ورسالته}(الجن : 22- 23).
2- على مستوى المجتمع: المجتمع يعج بالدعوات والأفكار والمذاهب وكل يعمل للتمكين لدينه ومنهجه ومذهبه لكن عجبا والله أن يقصر أهل الحق ويجتهد أهل الباطل، أن يتقدم أهل الفساد ويحجم أهل الصلاح.
تبلد في الناس حس الكفاح
ومالوا لكسب وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتـــــى
سدور الأمين وعزم المريب
ينفق أهل الباطل على فسادهم ويبخل أهل الحق على حقهم، قال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}(الأنفال: 36).
هذا ينتج عنه عدة نتائج نذكر منها:
- انتشار الفساد: عندما لا يُدْفع الباطل والمنكر ينتشر ويعم ويطغى قال تعالى: {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}(البقرة: 251).
- اندثار التدين: قال تعالى: {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}(الحج: 40).
- استحقاق عقوبة الهلاك الجماعي : قال تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}(هود: 117).
- اللعن والطرد من رحمة الله: قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون}(المائدة: 78، 79).
- الاستبدال: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}(محمد: 38)، كما استغنى عن بني إسرائيل ونزع منهم مشعل هداية الناس وسحب منهم الشهادة على البشرية.
ذ. محمدكرامي
جزاك الله خيرا
مقال مميز، مفصل، هادف، جامع، ماتع