{لـمثل هذا فليعمل العاملون}


عجبت لمن ينسى الموعد مع الموت كيف ينساه وهو لا ينساه! وعجبت أكثر من نفسي تعرفه ولا تستعد للقياه، وتوقن به ولا تجتهد في الخير والطاعة قبل رؤياه، بل إنها تحاول جاهدة أن تتجاهله وتتناساه، فوا أسفاه على هذه النفس وواحزناه، كم حاولت أن أحملها على طريق الخير، وصراط النجاة قبل أن يفجأها الموت فتأباه، واحذرها كل حين حصادا لا تحمد عقباه، وكم مرة أخذت هذه النفس لترى أناسا على وجوههم النور وعلى رؤوسهم الوقار، وفي كلامهم الإيمان، وفي حركاتهم الإحسان، قد ملؤوا المكان هيبة وجلالا، إنهم ممن إذا رؤوا ذكر الله! ثم أحملها إلى مجالس أخرى تشرق فيها شموس الصلاح، وتتلألأ فيها أنوار الطاعة، مجالس رحل أصحابها عن هذه الحياة، بيد  أن الله تعالى جعل لهم لسان صدق في الآخرين، إنها كتب التراجم، أجالس فيها أهل الله من الرجال والنساء، أجالسهم، أصاحبهم، أعاشرهم.. أتعلم منهم تربية النفس، وتزكية الروح، وتهذيب الفؤاد… أتعلم منهم كيف أترقى في مدارج السالكين، وكيف أكون من الصادقين، حتى أكون من أهل قولنا ربنا الكريم {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.

لكن نفسي تأبى علي!! تريد ما تريد ا لناس! وتنسى غفلة هؤلاء الناس، والقرآن يقول {ولا تكن من الغافلين}.

ثم قلت في نفسي لنفسي، إنك ستموتين، فاختاري ميتة الصالحين، واعلمي أنها لن تكون لك إلا إذا أنت عملت في حياتك عمل الصالحين، فإن الصالحين يفرحون بموتهم حين لا يلاقونها، فلما كانوا يستعدون، ولهذا اليوم كانوا يجتهدون.

لما حضرت بلالا رضي الله عنه الوفاة قالت امرأته : واحزناه، فقال : بل واطرباه، غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه.

ولما حضرت عامر بن عبد القيس الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك؟ فقال : ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا، ولكن أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر وعلى قيام الليل في الشتاء!! ولما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك؟ فقال : والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته ولكن أخاف أني أتيت شيئا حسبته هينا وهو عند الله عظيم!!

فيا نفس جدي واجتهدي، وأقبلي على ربك ولا تترددي، حتى تفرحي عند الممات، وتسري بصالح العمل عند اشتداد السكرات.. وانظري إلى عبد الله بن المبارك وأبي بكر النقاش وقد طرق الموت بابهما، ما كان أمرهما؟

ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن أبي بكر النقاش المفسر رحمه الله فقال : >حكى من حضره وهو يجود بنفسه وهو يدعو بدعاء ثم رفع