ذ. زين العابدين الركابي
تراكمت الأزمات، وتزاحمت الأحداث.. لقد كان المقرر: ان يكون هذا المقال كله عن (جريمة القرن العشرين): جريمة الاحتلال الصهيوني أرض فلسطين وتشريد أهلها منها، لكن أحداث لبنان الجسام قضت بالمناصفة في التناول بين تلك الجريمة، وهذه الاحداث..
وفي حقيقة الأمر: ليس ثمة فاصل (فولاذي ولا جغرافي ولا زمني ولا سياسي) بين القضيتين. فما يجري في لبنان -الآن بالذات ـ، يبدو وكأنه -بالتهاباته وصخبه (تعطيل) للذاكرة العربية عن استحضار مشهد الجريمة الكبرى التي يحتفلون بذكراها الستين في هذه الأيام!!..
ثم لولا (وجود إسرائيل) لما غرق لبنان في الأزمات المتلاحقة منذ قيام الدولة المعادية وحتى اليوم.. نعم ولما كانت هناك الحرب الأهلية وما تبعها من تداعيات ونشوء وقائع جديدة، كالمقاومة -مثلا -والصراع والمخاوف التي تصطفق حولها..
وليس من النضج السياسي – ها هنا- أن يتصور أحد لبنان واحة من الهناء الكامل في حالة عدم وجود الكيان الصهيوني، بيد ان هذا الكيان تسبب – بالتوكيد- في أزمات حادة تلظى بها لبنان: أمس واليوم..
هذه حقيقة لا شك فيها، وهي حقيقة تثبت -من زاوية أخرى- ما تسبب فيه وجود الكيان الصهيوني من اضطرابات -دائمة وموسمية- في عموم المنطقة: في هذه الصورة أو تلك، على مدى أكثر من ستين عاما، ولنفرد لكل موضوع سطوره من التناول:
أولاً: (جريمة القرن العشرين).. عام 1945 -في مؤتمر يالطا- قال ونستون تشرشل: >أريد أن أبدأ كلامي بأن أعلن في بداية الأمر أنني صهيوني أومن بأن من حق اليهود أن يكون لهم وطن قومي، وأن تكون لهم دولة يهودية<..
وكلام تشرشل (صدى) سياسي وتطبيقي لكلام قاله فيلسوف الارهاب الصهيوني جابوتنسكي، فقد قال -عام 1939-: >ليس لنا خيار آخر قط: يجب أن يخلي العرب المكان لليهود في أرض فلسطين. ونحن اليهود نشكر الله حيث اننا لا ننتمي إلى الشرق، لذلك يجب أن نكنس الروح الإسلامية من أرض إسرائيل<. وهذه المفاهيم الشريرة مسبوقة بقرار أو وعد أصدره عديم الضمير اللورد بلفور عام 1917 ويقضي بتمكين الحركة الصهيونية في أرض فلسطين.. وهذا القرار الانجليزي الباطل كان (نصف) صفقة حرام أبرمت -عام 1916- بين بريطانيا والحركة الصهيونية العالمية. أما النصف الآخر من الصفقة فهو أن تعمل الحركة الصهيونية العالمية على مساعدة بريطانيا في إنزال هزيمة ساحقة بالمانيا في الحرب العالمية الأولى، وذلك بجر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب لدعم بريطانيا.. وقد كان!!..
ثم -كنتيجة لهذه المؤامرات المركبة المتصاعدة- قامت دولة اسرائيل في مثل هذا الشهر (مايو) عام 1948.. وهذه هي (الجريمة الكبرى في القرن العشرين).. نعم.. هي جريمة بالمعنى القانوني والسياسي والأخلاقي، وهي جريمة لأنها (احتلال لأرض الغير بالقوة)، ولأنها شردت شعبا كاملاً من أرضه، ولأنها (جريمة مستمرة) حتى اليوم، وليس ينزع عنها صفة الجريمة -قط-: هذا المهرجان الاحتفالي الذي يقيمه المحتلون الآن ويشارك فيه قادة من الغرب وغيره، فهي -وفق تعاليم السماء وقوانين الأرض- مشاركة في الاثم والعدوان والباطل والجور والطغيان.
وهناك شركاء كثر في نشوء الجريمة واستمرارها..
أول هؤلاء الشركاء هم قادة الغرب الذين حاولوا (التكفير) عن جرائم الغرب تجاه اليهود بـ(ترحيل) المشكلة اليهودية إلى منطقتنا هذه، إذ إن هذه المنطقة -ولا سيما فلسطين- كانت خاضعة للانتداب البريطاني.. وكدليل على ترحيل الأزمة إلى ديارنا، فإن اللورد بلفور نفسه ضغط -عام 1906 -على البرلمان البريطاني (عندما كان رئيساً للوزراء) لكي يحرّم هجرة اليهود إلى بريطانيا!!.. يضاف إلى ذلك ان قادة الغرب قد عززوا مساندتهم لباطل الحركة الصهيونية: بالدعم المالي والاقتصادي والعسكري والتقني والدبلوماسي والسياسي والثقافي والإعلامي لدولة إسرائيل. فهم -من ثم- شركاء حقيقيون في جريمة القرن العشرين..
والشريك الثاني في الجريمة هم (عرب) من العرب، فهي مشاركة بالخيانة من بعضهم.. وبالغباوة والعمى الاستراتيجي في فهم الصراع وإدارته من بعض ثان.. وبالمتاجرة والمزايدة بالقضية الفلسطينية من بعض ثالث..
أما الشريك الثالث فهم (فلسطينيون). وتتمثل مشاركة هؤلاء في الخلافات -والشقاقات والصراعات البينيَّة التي تنزل بالقضية أفدح الأضرار، وتخدم -من ثم- العدو المحتل، خدمة لم يحلم بها بوسائله العادية.
ثانياً: إن في لبنان حريقا ملتهب الألسنة متعددها.. وإذا كانت (هواية التفرج) على ما يجري جريمة، فإن ضخ وقود إضافي إلى الحريق جريمة مماثلة.. والنجاة من اقتراف إحدى الجريمتين إنما تتجسد في القيام بـ(دور الأطفائي المخلص) الذي يمارس مهمة مزدوجة هي من صميم مسؤوليته: مهمة إطفاء (عين) الحريق، وتطويق ألسنة اللهب -في الوقت نفسه- حتى لا تمتد إلى أماكن أخرى، قد تكون الوطن العربي كله، أو العالم الإسلامي أجمع.. نعم.. ومجنون -حقاً -من يتصور ان الحريق اللبناني -إذا تأجج- سيحرق لبنان وحده، فهذا تصور عقيم سقيم زنيم ساذج: مرعب في سذاجته..
أولاً: لأن للبنان روابط متعددة مع محيطه.
ولأن غالب الكيانات اللبنانية- إن لم تكن كلها (تستنصر) بالخارج..
يضم إلى ذلك: الوميض الكامن تحت الرماد في أماكن عديدة من المنطقة، وهو وميض ينتظر الاشتعال.
من هنا، فإنه يتوجب على (الإطفائيين المهرة المخلصين): أن يمتلئوا اقتناعا -بادئ ذي بدء- بحقائق ثلاث متعاضدة:
حقيقة ان لبنان مكون من طوائف ومذاهب لا يتصور وجوده الواقعي بدونها (ودعونا من الأقاويل المنافقة التي تتظاهر بالاستتارة المتحررة من هذا التصنيف)..
وحقيقة أن (الاجتثاث المتبادل) مستحيل، فليس في مقدور طرف ما أن يجتث طرفا آخر.. وحين جن بعضهم وحاول ذلك، نشبت الحرب الأهلية التي هلك فيها الجميع..
والحقيقة الثالثة المترتبة على الحقيقتين الآنفتين هي (ضرورة التعايش) في ظل هذه الوقائع الجغرافية والتاريخية والسكانية: التعايش بمحبة، وهذه هي (المثالية)، أو التعايش على (كره)، وهذه هي (الضرورة الواقعية).
بعد اقتناع الأطفائي السياسي الماهر المخلص بهذه الحقائق:
يتعين عليه الامساك بمفتاح (الأزمة اللبنانية أو مفتاح مضخات الاطفاء الناجعة وهي الاكتشاف المعرفي والموضوعي للمخاوف التي تعصف بالكيانات والاتجاهات اللبنانية كافة، ثم بعد المعرفة ينبغي اكتشاف الحلول التي تسكب الطمأنينة النسبية في وجدانات الجميع وعقولهم وأوعية مصالحهم)..
إن المسيحيين -والمارون بوجه خاص-خائفون لأنهم يشعرون ب-(تآكل) ما في وزنهم الذي عرف لهم منذ الاستقلال..
والسنة خائفون لأنهم يرون صعودا متزايدا للشيعة -كميا ونوعيا-..
والشيعة متخوفون لأنهم يشعرون ان المسيحيين والسنة لا يقدرون -كما ينبغي- : هذا التحول الكمي والنوعي في كيانهم.
والدروز خائفون لأنهم يرون في هذه التحولات والتحالفات الجديدة ما ينقص حصصهم ووزنهم في التمثيل النيابي، والوزن السياسي والاجتماعي، والادارة الخ..
لذا، يتوجب على الاطفائي السياسي أن يقدر هذه المخاوف، وأن يخترع من الحلول العبقرية ما يطمئن الجميع على حاضرهم ومستقبلهم.. ولا حل بغير هذا، ذلك ان الخائف الواجف لا يتصرف بعقل، وانما يتصرف بالغريزة.. واذا اصطرعت الغرائز -في غيبة العقل- خرب البلد، لأنه عندئذ يتحول الى غابة تحكمها الغرائز.
وبما ان (التفاصيل الفنية) ليس من شأننا، فإن هناك خطوطا عامة يمكن تصورها -تمهد لحلول مفصلة وطويلة الأمد-:
1- خط (تبريد الساحة العامة) بـ:
أ- تجميد القرارات المثيرة (كبديل للالغاء او التنفيذ).
ب- سحب المسلحين من الشوارع.
ج- ايقاف الحملات الاعلامية الضارية.
2- خط أن يتولى الجيش اللبناني مقاليد السلطة في البلاد (لأمد يحدد بصرامة)، ولا سيما ان قائد الجيش موثوق به من الجميع، اذ هو مرشح توافق وطني لرئاسة الجمهورية.
ينهض الجيش -من خلال قيادته الوطنية، وبموجب السقف الزمني المحدد له- بالمهام والمسؤوليات التالية:
أ -تهيئة المناخ لانتخاب رئيس للجمهورية.
ب -تأليف حكومة وطنية جامعة تختص -بوجه خاص- : ببلورة قانون متفق عليه للانتخابات التشريعية.. وضبط المسارات الادارية في المواقع كافة.. وايقاف التدهور المعيشي.
ولا شك ان هذا أفضل من (الفوضى) التي ينزلق اليها لبنان، وهو -من ثم-حل لا يرفضه الا مريد للشر والسوء للبنان، سواء كان هذا المريد لبنانياً أو جهة خارجية.
< تنبيه مهم: كتب هذا المقال قبل التطورات الأخيرة في لبنان التي استلم فيها الجيش مقاليد السلطة. ولم نجر تعديلاً على المقال لكي يعرف القارئ: كيف يفكر الكاتب؟.. وكيف يقرأ الأحداث؟.
> الشرق الأوسط ع 2008/5/10