كان الأستاذ الجامعي في الدرس الذي يلقيه على مسامعنا، وهوبالمناسبة يدور حول الكتاب المقدس الإنجيل، يعرج بنا بين الفينة والأخرى على التعاليم المسيحية واليهودية، ثم يسرد علينا آيات من القرآن الكريم..
كانت رسالة حصته كما فهمتها، دعوة لقراءة الكتاب المقدس والتمعن في محطاته الروحية بكل زخمها الإنساني، وكانت الكلمات وهويقرأ من الكتاب ملفوفة بكل إعجابه وانبهاره..
وكنت أنا في حالة من التشوش الداخلي.. أحاول أن أجعل لي موقع قدم في هذه اللخبطة العقدية وأجاهد بما تيسر من معلوماتي الصغيرة لأفهم إن كان لهذا الاستعذاب من السيد المحاضر العربي المسلم، لتلك الكلمات المنسوبة للكتاب المقدس ما يبرره!!..
فالقرآن واضح كل الوضوح في وصف ما وقع في شأن الكتب السماوية بالتلاعب البشري، (ليشتروا به ثمنا قليلا) كما قال تعالى. وواضح في تكفير الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، قال تعالى : {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم}(المائدة : 73).
فما لهذا الأستاذ يكاد يريق لعابه وهويقرأ مخطوطا سماويا غدا بشريا إّذ حرفه بعض رجال الدين من اليهود والنصارى؟..
وماله يتلمظ بحلاوة ما جاء من كلمات في هذا الكتاب الذي لا يذكر المسيح عيسى عليه السلام إلا ويقرنه بالبنوة لله!!، تعالى الله عن تجديفهم وبهتانهم علوا كبيرا..
والأدهى من ذلك أن الأستاذ الكبير كان يلف حول درسه ويلف ويلف، ويعود ليحدثنا عن التسامح في الديانة الإسلامية، والمعطل تنزيله عند المسلمين
(كما يجب؟!!)، ويحثنا على ضرورة التعايش بيننا وبين أصحاب الديانات الأخرى . وهذا الأمر الأخير هوالذي كان مثار حنقي أكثر، باعتبار أن ما قاله عن الكتب السماوية، وللحقيقة، فصل فيه بلسان الباحث الخبير، ونحتاج حتى نكون منصفين إلى الإطلاع الدقيق على الكتب السماوية كما يفعل هولنجادله من موقع معرفة لا من موقع تعصب وهوى، والله سبحانه يعبد عن علم لا عن جهل.
وفي هذا السياق الأخير، ألا يدعوالأمر إلى التصويب، وقد طال سير هذا القطار العربي الإسلامي بلا فرامل، وما عدنا عرضة لشد آذاننا والضرب على قفانا من طرف سادة التمدن الغربيين فحسب، بل وحتى من بعض أبناء جلدتنا ، حيث أصبحوا مايستروات في اجترار أسطوانة التعايش والتسامح بين ظهرانينا..
ووجدتني كإعصار أهب مقاطعة للمحاضرالمحترم وأسأله بغيظ لم أفلح في لجمه قائلة : هم سرقوا ماضينا وحاضرنا وعيشنا وكرامتنا وعروا سوءات رجالنا في أبوغريب وكوانتناموواغتصبوا نساءنا ويتموا أطفالنا ودفنوا أحياء رضعنا، وحين استفاقت مشاعر الغيرة في ثلة من أبنائنا وحملوا السلاح في فلسطين والعراق، (ولا أقصد منهم قتلة العزل والمدنيين)، زجوا بالجميع في كيس الإرهاب ليواصلوا شفط مابقي من رفاتنا؟! ثم انبرى أكاديميوهم وباحثوهم ليرفعوا في وجهنا تهمة التطرف ورفض التعايش!!..
أليسوا هم الذين يعلنون علينا كل أنواع الحروب، في حالة الحرب، بفلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من مناطق الإستضعاف، وفي حالة السلم عبر الإساءة إلى نبينا وطرد فتياتنا المحجبات من كل مؤسساتهم كما لو كن جرباوات، وامتهان عمالنا وسرقة معاش جنودنا الذين حاربوا بدلا من جنودهم أيام الحربين العالميتين الخ..، والآن يناوشوننا عبر أقلام عدوانية مدعومة، ليرسخوا القناعة الأخيرة بأننا همج رعاع لا نستحق لا حضارة ولا أسلحة نووية كإسرائيل؟! ولا استقلال سياسي أواقتصادي أو إعلامي؟! نحن مجرد ضباع، وهم الأسود الأشاوس والسلام..
وينتفض السؤال حارقا : من هم العدوانيون الذين يقوضون أسس التعايش والتسامح المبني على حفظ كرامة الناس وخصوصياتهم، وحقهم في الاختلاف، نحن أم هم؟
ومن جهة أخرى، لماذا يخدم مثقفونا بقصد أوبغير قصد مشاريع الاستعمار؟؟
“لحْمَاقْ هذا؟!”، قلت في نفسي، لماذا يكرر هذا الأستاذ على حضور كله من المتحجبات والطلبة الملتحين هذا الخطاب.. هل هواتهام مبطن لنا جميعا (بدون تبين) بالتطرف، أم هومفتاح لإشعارنا بالذنب، لتثبيط نفسياتنا، وبذلك يسهل تهويدنا أوتنصيرنا، إذ يقرأ علينا هذا الأستاذ المحترم أسفارهم بهذا الحس الاستمتاعي الجلي..
وبعيدا عن هذه الحصة الفريدة من نوعها في تكثيف شعورنا بالذنب عبثا، فنحن أهل التعايش ومهندسوه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكحاملة متواضعة لإرث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أعتبر العالم وَرْشَتي لإعلاء كلمة الحق والخير والجمال كما أعتبر الناس جميعا بكل دياناتهم وأعراقهم مزرعتي لبذر قيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيم الرحمة للعالمين، قيم الإسلام..
لكنني أرفض الإستحمار كيفما كان لونه وشكله، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
وبصيغة أخرى، نحن المسلمين الذين نشرنا في جميع القارات تعاليم التسامح ، مستعدون بل مطالبون بدعم وإرساء الخير في هذا العالم الرائع الذي يستحيل إلى خراب يوما عن يوم،بسبب ثلة من الساسة المجانين المدفوعين من طرف مجموعة من اللوبيات المالية التي يعرف الجميع جذورها ومخططاتها.
فقط نحتاج من هذه الزمرة المحترمة من مثقفينا وأكادميينا أن يوفروا جهودهم ومداد أقلامهم الذي يسفحوه بلا طائل في حثنا على التسامح، ولْيوجهوا أقلامهم إلى طبقة المثقفين والأكاديميين الغربيين، فهو أزْكَى لهم وأطهر،ويحاولوا أن يحسسوهم بأن مؤامرة الزج بالمسلمين في قفة الإرهاب جميعا، وكسر أسماعهم في نفس الآن بمقولات السلام والتسامح، في حين يشهد الواقع نقيض كل ذلك، هي عملية غبية جدا جدا، لأن المولى عز وجل كتب في سننه الربانية أن الباطل كان زهوقا ومفضوحا طال الزمن أوقصر.
كما نطالب أكاديميينا أن يُعَرُّوا زيف الخطاب الغربي، دون خجل من جذورهم كمسلمين، ويلمعوا سلعتنا النبوية، المحاصرة بالغبار ومداهنات الكبار وشخير الصغار، (ففي مسألة الحجاب مثلا، نحن المسلمات، نفخر أننا نطرق أبواب العالم في كل المجالات بقوة ونحن متلفعات بسترنا وحيائنا الجميل الذي يبهر ذكور العالمين وفي نفس الآن، لا يجرئهم على دس بطاقات دعوتنا لغداء أوعشاء على هامش لقاء علمي على سبيل الذكر،لأن حجابنا لا يغلِّف أدمغتنا الحرة الطليقة بل يحاصر فقط أهواءنا الملجمة بغلالة الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل، كما يضفي علينا كل الوقار المطلوب للنهوض بمشروعنا الرسالي، ومع ذلك فإن مثقفينا الأذكياء يغضون الطرف عن هذه الحقيقة ولا يخجلوا من الترديد كأسيادهم، أن الحجاب مظهر من مظاهر التخلف وشد المرأة إلى الوراء)؟؟.
وتلميع السلعة النبوية جمُّ المكاسب يُفْضِي بصاحبه إلى الجنة بإذن الله تعالى، في حين يُفْضي تلميعُ سلع الباطل إلى الدولار وما جاوره، وإلى الندامة بلا شك (يوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا).