وضع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن بعده يوغسلافيا، المسلمين قبالة واحدة من أكثر التحديات خطورة وإلحاحاً في التاريخ الحديث.
فعلى حين غرّة من الزمن برز إلى الوجود العديد من الجمهوريات والكيانات الإسلامية المستقلة. استقلالاً تاماً أو ذاتياً، وعلى حين غرّة من الزمن وجدت هذه الكيانات نفسها تسبح في فراغ مخيف وعلى سائر المستويات السياسية والعسكرية والعقدية والثقافية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، وكأنها وضعت في منطقة انخفاض جوّي يحمل الاستعداد لتقبّل الرياح القادمة من كل مكان.
انها لحظة تاريخية صعبة، والخيار فيها لابدّ أن يتحدّد في أسرع وقت، سواء من قبل القيادات الجديدة لهذه الكيانات، أو من قبل عالم الإسلام في الخارج، وإلاّ اضطر الفراغ إلى أن يسحب إليها قوى قد تكون في حالة تضادّ مع الإسلام تاريخياً ودينياً وحضارياً.. وقد تمارس هذه القوى ضغوطها لطرد بقايا القيم والموروثات الإسلامية في نسيج هذه الكيانات، وحينذاك قد نخسرها نحن المسلمين إلى الأبد.
إنه لسباق سريع تدخل فيه الأطراف كافة، بما فيها إسرائيل والصهيونية والمعسكر الرأسمالي، فضلاً عن روسيا نفسها، والصين، والأحزاب الشيوعية العتيقة لاستعادة بعض مواقعها أو تحقيق مصالحها هنا وهناك.
وما ينتظر المسلمين ازاء هذه التحديات كبير حقاً.. ولكن رحلة الألف ميل قد تبدأ -كما يقول المثل- بخطوة واحدة، ولابدّ أن نختار هذه الخطوة وبأسرع وقت وإلاّ فقدنا الفرصة لزمن قد لا يعلمه إلاّ الله سبحانه.. والتاريخ ـ كما هو معروف ـ قد لا يمنح فرصة مرتين.
لا يتسع المجال للحديث عن الخطط التفصيلية لعمل كهذا، ولكن المرء قد يتذكر بعض مفردات هذه الخطط، من مثل تقديم الخبرة والمال والغذاء والحاجات الأساسية.. والقيام برحلات دورية مرسومة بعناية لتغطية الحاجات الماسّة، أو دراستها في الأقل.. وتقبّل عناصر بشرية من الجمهوريات المستقلة لتدريبها ومنحها القدرات اللازمة لكي تعود إلى بلادها وتشارك في أعمال البناء، وهي تحمل رؤية أكثر نفاذاً لمطالب هذه البلدان في إطار خصوصياتها الإسلامية.
وبموازاة هذا لابدّ من بذل جهد إعلامي متواصل يغذي حاجة هذه الجمهوريات إلى البرامج الهادفة، جنباً إلى جنب مع جهد ثقافي يبدأ بتقديم الصحيفة والكتاب وينتهي بإنشاء المدارس والمعاهد والجامعات.
وحتى على مستوى صراع القوى، فإن الإسلام مدعوّ لدعم سياسي وعسكري ووفق قنوات دولية لا تثير ردود الأفعال السيّئة، من أجل سدّ الطريق على أية محاولة من داخل المنطقة أو خارجها، لتدمير مقوّمات هذه الكيانات أو احتوائها لصالح الطرف الآخر.
وعلى أية حال فانه لمحكّ خطير يجد المسلمون أنفسهم معه إزاء إحدى اثنتين : المزيد من الاستجابة للتحدي، والمزيد من الفاعلية للتحقّق بحضور أشدّ كثافة لملء الفراغ المنظور، أو التسويف والكسل والغياب ورفض المشاركة بانتظار فرص قادمة أكثر ملاءمة وسهولة.. وحينذاك سيفقد عالم الإسلام، مرة أخرى، ساحة واسعة من جغرافيته وعمقه الاستراتيجي لصالح الخصوم والأعداء، وهي خسارة مضاعفة لأنها لن تقتصر على ضياع هذه الأرض، وانما تحوّلها إلى نقطة ارتكاز بيد الخصوم لمزيد من التفكيك والتدمير قد يلحق عالم الإسلام نفسه.