مولاي مصطفى البرجاوي (*)
لما كان التاريخ ذاكرة ومرآة الأمم وسيرتها، يجسد ماضيها ويعكس شخصية الشعوب عقيدة وثقافة وحراكا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا…، ويترجم حاضرها، وتستلهم من خلاله دروس مستقبلها، كان من الأهمية بمكان الاهتمام به، والحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، بحيث يكون نبراساً وهادياً -بعد توفيق من الله- لهم في حاضرهم ومستقبلهم. فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها، إذ به قوام الأمم، تحيى بوجوده وتموت بانعدامه.
ونظراً لأهمية التاريخ في حياة الأمم، فقد لجأ أعداء وأدعياء هذه الأمة -فيما لجؤوا إليه- إلى تاريخها، لتشتيت جمعها، وتفتيت أوصالها، وتهوين شأنها، فأدخلوا فيه ما أفسد كثيراً من الحقائق، وقلب كثيراً من الوقائع، وأقاموا تاريخاً يوافق أهواءهم و أغراضهم، ويخدم مآربهم، ويحقق ما يصبون إليه.
موضوع تزوير التاريخ الإسلامي،طويل وعناصره كثيرة.ولكنني سأحاول الاختصار -بقدر الإمكان -، مكتفيا من القلادة بما أحاط بالعنق.. إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فكانت هذه السطور تذكيرا، ونصحا، وتبيانا، وتحذيرا من عاقبة تزوير وتحريف الكلم عن مواضعه!..
شاع في العصر المتأخر في كثير من محافل العلم والثقافة،والمناهج التربوية- التعليمية، عدد من المغالطات والترهات والأباطيل والتخرصات التي يراد من ورائها زحزحة المسلمين عن دينهم وتشويه حقهم، وتشويه العقائد الخالصة لصد الناس عنها، هذه المغالطات تقدم بصورة يحسبها بعضهم علماً وسبقا في الاركيولوجية التاريخية! وما هي كذلك؛ وهم بهذا يريدون أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير! ولهذا يجب إماطة اللثام وكشف النقاب عن مثل هذه المغالطات وإظهار ما يهدمها من حقائق، ومن بين هذه الأخطاء:
1- في برنامج التاريخ الطبعة الأولى 1994- 1995 ؛ تضمن درسه الأول (التطورات الكبرى في عصر ماقبل التاريخ) ترويج للنظرية الداروينية ؛ مفادها أن الإنسان عرف تطورا في خِلقته(أنظر الجدل المأخوذ من الكتاب ص:8)،ضربا عرض الحائط الآية القرآنية:”لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”سورة التين الآية 3. قالوا في التقويم: إنّه جَعلُ الشيء ذا قوام. وقوام الشيء: ما يقوم به ويثبت. وتُصرّح الآية الكريمة بأنّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، ويذهب بعض أهل التفسير إلى أنّ المقصود هنا القوام الجسدي، وإن كان اللفظ يحتمله. والراجح أنّ المقصود هنا هو تعديل القوى الظاهرة والباطنة معا، أي المادّية والمعنويّة…وللأسف الشديد سقط في هذا الفخ العجيب حتى بعض المفكرين الإسلاميين مثل عبد الصبور شاهين خاصة إثر مناظرته الشهيرة مع الباحث المصري الجيولوجي المتخصص في الإعجاز العلمي الدكتور زغلول النجار على القناة mbc!
2- و ما إن كدنا نطوي صفحات البرنامج السابق الذكر حتى نزل علينا كتاب ” المسار في الجغرافيا” للسنة الثانية من سلك البكالوريا (البرنامج الجديد) -رغم معلوماته القيمة- بخطأ تاريخي فادح وقع فيه الإخوة الساهرون على إعداد برنامج هذه السنة2007.ويتعلق الأمر بالأسماء الموضوعة على صورة القدس ؛ لإبراز دور القدس في تعايش الرسالات (وليس الأديان كما ورد في الكتاب:إن الدين عند الله الإسلام) تم وضع مكان حائط البراق(1) حائط المبكى! في الوثيقة 3(ب) : مدينة القدس مهد الديانات السماوية الصفحة 39.
وبدأت تختمر في ذهني أسئلة يستعصي فك لغزها وترابطاتها :هل هو خطأ عفوي وقع سهوا(عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه<(حديث حسن رواه ابن ماجة و البيهقي وغيرهما)، ولكن في هذا الإطار: ألم يكن من الأجدى في إطار ما يسمى في الطرائق البيداغوجية الحديثة المتبعة في المغرب : “الكفايات الممتدة” الاستعانة بأهل التخصص!
هل الأطر المكلفة بإعداد البرنامج ضحية الإعلام الذي يسيطر عليه اللوبي الصهيوني، كما قال أحد مفكريهم :” في عهد الميركانتيلية من يملك الذهب يملك العالم وحاليا من يملك الإعلام يملك العالم”.
هل الصورة مأخوذة من مواقع ومراجع صهيونية لا علاقة لها بالمواقع الإسلامية..
هل بهذه الصورة نساهم في تكريس أكذوبة الصهاينة لأبنائنا؛بأن إسرائيل لم تغتصب أرضا ولم تبد شعبا!
هل الإخوة الساهرون ليل نهار في إعداد الكتاب وإخراجه في حلة بهية لم يطلعوا على التاريخ الإسلامي وبالأخص القضية الفلسطينية؛ التي هي أم القضايا التي نجح الكيان الصهيوني في ترويج الأوهام وتزوير الحقائق حولها..عجبا والله! في الوقت الذي يعمل الكيان الصهيوني جاهدا في تشويه الحقائق التاريخية، وفي الوقت الذي يضيق الخناق على المفكرين والمؤرخين الذين يشككون وينفون المحرقة (الهولوكوست)أمثال الفرنسي جاوردي و دافيد إيرفينغ المتخصص في الحرب العالمية الثانية.تقع اللجنة العلمية المكلفة بالتأليف”في خطأ فادح، يمكن أن يكلف الصهاينة ميزانية ضخمة من أجل ترويجه في وسائل الإعلام العربية والدولية!!!
ألم يفطن هؤلاء النخبة للجرائم والإبادة الجماعية(غزة أخيرا) التي ارتكبتها ولازالت ترتكبها دولة الكيان الغاصب لأرضنا الفلسطينية، تجعلهم يعضون على تاريخ القضية الفلسطينية بالنواجذ!
وللاشارة، فالمتخصصون في دراسة المسجد الاقصى يرون عكس ما تروجه بعض وسائل الاعلام والكتب المدرسية، فعندما يذكر (المسجد الأقصى المبارك) يتبادر الى الذهن ذلك المعمار و البناء ذي القبة الذهبية. ولكن مفهوم الأقصى المبارك الحقيقي أوسع من هذا وذاك، فالمسجد الأقصى المبارك هو كامل المساحة المسوَّرة الواقعة داخل البلدة القديمة بالقدس الشريف بشكل شبه مستطيل، وهو الذي يعرفه المعظم في هذه الأيام (خطأً) باسم (الحرم القدسي الشريف) (هذا يتطلب منا دراسة مستفيضة ونترك ذلك لفرصة لاحقة إن شاء الله).
فالتاريخ إذن، ليس مجرد أقاصيص تحكى، ولا مجرد تسجيل للوقائع والأحداث..ومن ثم تكون أثرا بعد عين، خيالا بعد واقع.. إنما يدرس التاريخ للعبرة والعظة وتربية الأجيال وتقويم اعوجاجات الأمة وتنويرها والدفع بها إلى الأمام؛ من خلال الوقوف على ركائز تاريخية متينة بعيدا عن التلفيق والتزوير؛ يقول تعالى : {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}(الأعراف : 176) وكل أمة -كما يقول أحد المؤرخين- من أمم الأرض تعتبر درس التاريخ من دروس التربية للأمة، فتصوغه بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها… ولا يعني هذا تزوير التاريخ لإعطاء صورة وضاءة لإحداث أثر معين في نفس الدارس، ولا إلى إغفال عثرات المسلمين وانتكاساتهم، وإبراز الأمجاد والبطولات وحدها، فهذا ليس هو المطلوب… إنما المطلوب أن يكون الدرس التربوي الأكبر هو المستفاد من درس التاريخ: أن أحوال هذه الأمة في صعودها وهبوطها، ورفعتها وانتكاستها إنما تخضع لنواميس وقوانين ربانية ثابتة لا تحابي أحدًا ولا تنحرف عن مسارها من أجل أحد…
ويقول الله عز وجل عن أهمية الحدث التاريخي {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب}(يوسف: 111) (أي في دراسة الحدث وأخذ العبرة منه يكون الهدى والفلاح…
لهذا نرجو من الإخوة الساهرين على الحقل التربوي، إرسال مذكرة وزارية إلى كل المراقبين التربويين للتنبيه لخطورة هذه الكلمة(حائط المبكى) وتصحيحها في الطبعات المقبلة حتى لا تترسخ في ذهنية الأجيال الصاعدة من أبنائنا. والله من وراء القصد.
ما من كاتب إلا سيفنـى
ويبقي الدهر ما كتبت يــــداه
فلا تكتب بيدك غير شيء
يسرك يوم القيامة أن تـــــراه
—————
(ü) باحث في التاريخ الاسلامي
(1) حائط البراق : وهو ما يسميه اليهود حائط المبكى، حائط البراق حائط يحد الحرم القدسي الشريف من الغرب. وترجع هذه التسمية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طبقاً لما أشارت إليه مصادر قرآنية ونبوية عديدة في تفسيرها للآية الكريمة “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله” أن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ركب البراق حتى باب المسجد الأقصى حيث ربط الدابة قرب الباب في مكان بالحائط الغربي للحرم، في الحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء من قبل، ودخل المسجد حيث صلى بالأنبياء ثم عُرج به إلى السماوات العلا..