د. عمر آجة – وجدة -
حنين من أعظم المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، وهي من آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وسأجملها في كلمات، ثم أقف مع الدروس العظيمة التي وردت فيها.
ولكن قبل ذلك أعطي موجزاً مختصراً لهذه الغزوة:
عندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وفتح الله له مكة في رمضان؛ بلغ عربَ الطائف ومن حولهم انتصارُ المسلمين وفتحُ مكة، فخافوا خوفاً عظيمًا، وقالوا: ((نحن سنكون بعد مكة”، فأعدوا لهذه المعركة، حتى ورد أنهم كانوا يعدون منذ سنة لغزو الرسول صلى الله عليه وسلم فلما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى مكة، وافتتح مكة؛ قالوا: ((فلنبدأ به قبل أن يبدأ بنا”.
فجاء مالك بن عوف -وكان سيدًا في قومه- وجمع هوازن وثقيف وبني مالك وبني جشم، وغيرهم من قبائل العرب المتاخمة للطائف، ونزل بهم بعد رمضان إلى مكة؛ لمهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في السادس من شوال؛ لملاقاة مالك بن عوف ومن معه من هوازن وثقيف.
وفعلا التقوا في حنين، وكان عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا (عشرة آلاف من الذين جاءوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، وألفان من الطلقاء، أي: من الذين أسلموا في الفتح)، فلما رأى بعض المسلمين هذا العدد الهائل- ؛ قال قائلهم: ((لن نغلب اليوم من قلة)) واستمروا.
وعندما اقتربوا من الموقع الذي عسكرت فيه هوازن وثقيف بقيادة مالك بن عوف، أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة ليستطلع خبرهم، وجاءه بالخبر.
وكمَنت هوازن وثقيف وسط الجبال وأعاليها وبين أطراف وادي حنين ففاجأوا المسلمين بالأحجار والنبال والسهام، فسرعان ما انهزم القوم وولوا على أدبارهم، وهربوا من المعركة، حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وليس معه إلا قلة.
وكان عدد هوازن قرابة عشرين ألفا، فانطلقوا يقاتلون حتى ارتج القوم وولوا الأدبار -وبخاصة الطلقاء والأعراب- والشباب الذين أسرعوا من القوم، حتى قال بعض القائلين: ((لن يردهم إلا البحر)) وقال آخر من الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام : ((اليوم بطل السحر)) بل قد ارتد بعض الناس ممن كان قد أسلم بالأمس من طلقاء مكة.
وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي ((أنا النبي لا كذب، أنا بن عبد المطلب))، ثم أمر العباس -وكان جهير الصوت- فنادى، فبدأ الصحابة يأتون فردا فردا، والرسول صلى الله عليه وسلم ثابت في مكانه، ثابت في مقامه، حتى تكامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة مائة وقيل في الرواية ثمانين فردا، فبدءوا في القتال، واشتد القتال، ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حُصيات ورمى بها وقال: ((انهزَموا)) أو ((انهزِموا)) فانهزمت هوازن.
وأمامهم قرابة مائة فقط من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدؤوا في جمع الغنائم، وولت حنين إلى أوطاس (منطقة قريبة من حنين) (منطقة تسمى اليمانية).
فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم خلفهم أبا عامر الأشعري وأخاه أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، فقاتل أبو عامر حتى قتل ( ثم أخذ الراية أخوه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فقاتل حتى انهزمت ثقيف وهوازن، فلحقهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وحاصرهم في قلعتهم في الطائف قرابة عشرين يوما -وقيل: ثلاثين يوما- وأبوا أن ينزلوا من الحصن، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، وقد جمعت الغنائم، وهي غنائم ضخمة جدا (أربعة وعشرون ألفا من الإبل، وقرابة أربعين ألفا من الغنم، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، وستة آلاف من السبي (أي: من النساء والذرية).
غنائم لم يغنم المسلمـون مثلها في تاريخهم أبداً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما الذي حدث؟ انتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً لعل أهل الطائف يأتون، فلم يأتوا، ثم قسم الغنائم صلى الله عليه وسلم وأعطى الطلقاء، أعطى المؤلفة قلوبهم، وأعطى عدداً من المهاجرين والأعراب، ولكنه لم يعط الأنصار شيئا صلى الله عليه وسلم فوجدوا في نفوسهم، ثم ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم وأحرم من الجعرانة واعتمر، ثم رجع إلى الجعرانة مرة أخرى، وانطلق إلى المدينة، ودخلها وقد بقي على شهر ذي الحجة عدة أيام. وهكذا انتهت هذه المعركة.
دروس من غزوة حنين
أولا: التفاؤل وعدم اليأس :
كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى حنين، قد بلغته هذه الجموع، وقيل له: ((إن معهم أموالهم وأولادهم ونساءهم”؛ لا ينهزم أصحابه؛ لأنهم إذا عرفوا أن أموالهم وأهلهم معهم لا ينهزمون بسهولة.
فرح، وقال: ((تلك غنيمة المسلمين غداً -إن شاء الله-))(رواه أبو داود) الدرس هنا أنه مع هذه المحنة العظيمة، كان صلى الله عليه وسلم متفائلاً، وتفاؤل الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت في عدة مواقف:
- في قصة سراقة بن مالك، والرسول صلى الله عليه وسلم مطرود من مكة كان يبشر سراقة كما ورد في بعض الآثار.
- في غزوة الأحزاب بشر صحابته بفتح بلاد الفرس والروم واليمن، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد به الأمر بشر صحابته، فرُوح التفاؤل لا تغادره صلى الله عليه وسلم ولذلك فمهمة الداعية إذا كثر القنوط وكثر اليأس وكثرت المشكلات أن يبشر من معه.
مع هذه المصائب التي نراها الآن في الأمة، ومع هذا الابتلاء، ومع هذا التقتيل ومع الصورة السوداء الحالكة يجب أن نبشر بالنصر العظيم -بإذن الله- عاجلاً أو آجلاً.
ثانيا: العبرة ليست بالكثرة :
قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ اللأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}(التوبة : 25) ورد في كثير من الروايات أن بعض الصحابة، قالوا: ((لن نغلب اليوم من قلة)) أعجبوا بكثرتهم؛ لأن هذا من أضخم الجيوش التي خرجت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فماذا كانت النتيجة؟ كانت الوقعة، وكانت الهزيمة النكراء، وهذا الجمع الحافل وهذا العدد الكبير لم ينفعهم من الله شيئا.
هذا درس نحن بأمس الحاجة إليه، مسألة الكثرة والقلة مسألة يخطئ فيها كثير من الناس.
نحن أمام درس عظيم، لا تغتروا بالكثرة، لا تغتروا بكثرتكم، ولا تغتروا بكثرة الأعداء وترهبوا كثرة الأعداء {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}( آل عمران : 173 ). يجب أن تفقهوا هذه الحقيقة التي رأيناها عيانا في غزوة حنين: ليست العبرة بالقلة والكثرة؛ فدائما الكفار هم الأكثر، والمؤمنون هم الأقل: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(المائدة : 66 ) {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد : 26 ) {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}(يوسف : 103).
أما المؤمنون؛ فدائما هم القلة ، وهكذا يأتي الشرع ليثبت ذلك، {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيل}(هود : 40) {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(سبأ : 13) {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ}(البقرة : 246) {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}(البقرة : 249).
إن الكثرة إذن ليست هي المقياس، إنما المقياس بالالتزام بالحق؛ ولذلك رأينا كيف هزم اثنا عشر ألفا وانتصر مائة الثابتون، الفرق عظيم، وعظيم جدا.
ثالثا: من أسباب الهزيمة ضعف الإيمان :
والصحابة منطلقون من فتح مكة رأوا شجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم، يقال لها ((ذات أنواط)) فقالوا: ((يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)) فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ((أتقولون كما قال بنو إسرائيل لموسى ))(رواه الترمذي وأحمد) {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(الأعراف : 138).
قال العلماء: من أسباب هزيمة المسلمين أنهم وجد فيهم مَنْ إيمانه ضعيف، والذين قالوا هذا الكلام قلة، قد يكونون واحدا أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة، مع اثني عشر ألفا، فكان من أسباب الهزيمة ضعفُ الإيمان عند بعض المسلمين.
ولذلك تأخرت الانتصارات في واقعنا المعيش في كثير من بقاع الأرض، لأن لدى الناس ضعفاً شديداً في إيمانهم. إذا كان هؤلاء -ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هزموا؛ لأن بعض الأفراد -حاشا لله أن يقول ذلك كبار الصحابة أو من تربى على يد الرسول صلى الله عليه وسلم بل إن الذين قالوا ذلك هم من الطلقاء، الذين أسلموا منذ أيام قليلة، قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ((اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)) فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم هذا الفعل، ووقعت الهزيمة.
رابعا: أهمية التربية :
من أسباب الهزيمة أيضا ما فعله الطلقاء، وهم الذين أخذهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتح ثم قال: ((اذهبوا، فأنتم الطلقاء (( ثم أسلموا وكانوا حديثي عهد بالإسلام، لما التحمت المعركة؛ أول من فر من المعركة هم هؤلاء، وهذا يعطينا درسا عظيما، وهو أهمية التربية في الإسلام، هؤلاء الذين لم يتربوا سرعان ما فروا.
لا بد من التربية، ولا بد من الصبر على التربية، والطلقاء كانوا سببا رئيسا من أسباب الهزيمة في غزوة حنين؛ لأنهم لم يتربوا، تربية عميقة، فهم أول ما واجهتهم المعركة هربوا، بل إن بعضهم قد ارتد، وبعضهم قال: ((اليوم بطل السحر)) اعتبروا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم سحرًا، اعتبروا الوحي سحرًا، وقال أبو سفيان -وهو من الطلقاء، ومن الذين أسلموا حديثا-: ((لن يرد هؤلاء إلا البحر)) (أي: بحر جدة) يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، لما رآهم ولَّوْا.
فالتساهل في موضوع التربية والصبر عليها يُحْدث مثل هذه النتائج، والاغترار بإقبال الناس دون العناية بتربيتهم يُحْدث مثل هذه الكوارث، ويُحْدث مثل هذه المصائب؛ فلا بد من العناية بالتربية عناية تامة ودقيقة وبطيئة، وعلى تؤدة ودون عجلة.
خامسا: ثبات القائد وصبره :
جاء في بعض الروايات- لم يثبت إلا هو وحده صلى الله عليه وسلم وقيل: ((معه أربعة: أبو بكر وعمر وعلي والعباس)) وقيل: ((ثمانية)) وقيل: ((عشرة)) لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ثابتا، حتى نادى على الأنصار والمهاجرين، فحضروا.
إن ثبات الداعية على مبدئه من أعظم وسائل انتصاره.
ومن أعظم الدروس أيضا: صبر الرسول صلى الله عليه وسلم، واجه هؤلاء الأعراب، فهؤلاء الطلقاء، هربوا، ولما جاءت الغنائم؛ جاءوا يركضون! أول من هرب هو أول من جاء للغنائم، فأحدهم يقول: ((اعدِلْ يا محمد)) فيستأذن عمرُ بقتل هذا الرجل؛ لأنه كَفَر، وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ((من يعدل إن لم أعدل))(رواه البخاري ومسلم) وقال : ((خسرت وهلكت إن لم أعدل))(رواه مسلم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولكنه حلم وعفا وصفح، وقال: ((لا أحب أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))(رواه البخاري ومسلم والترمذي).
وجاءه أعرابي فأخذ وجذب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أثر في عنقه، وقال: ((أعطني يا محمد من مال الله)) فالتفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وضحك، فأعطاه حتى رضي.
وجاءه رجل وقال: ((أعطني)) فأعطاه مائة من الإبل. قال: ((أعطني)) فأعطاه مائة من الإبل. ثم قال: ((أعطني)) فأعطاه مائة من الإبل. يقول هذا الأعرابي : ((والله إنه كان أبغض رجل إلي، فما انصرفت إلا وهو أحب رجل إلي)).
فالناس اليوم يواجهون في دعوتهم بعض الإهانات، ولن يواجهوا كما واجه الرسول صلى الله عليه وسلم فعليهم بالصبر، وأن يوطِّنوا أنفسهم على الصبر، و الحلم، و العفو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران : 159).
لما نقل للرسول صلى الله عليه وسلم أن أحد الأشخاص -بعد أن وزع الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم- قال: ((إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله)).
فماذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ تغير وجهه صلى الله عليه وسلم وغضب، ولكنه لم يتعد أن قال: ((قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر))(رواه البخاري ومسلم وأحمد) ثم ذكر حديث : ((أن نبيا من الأنبياء شجه قومه، فكان يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اهد قومي، اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).
سادسا: معالجة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسية الأنصار :
الرسول صلى الله عليه وسلم غنم في هذه الغزوة غنائم لم يغنمها في أي معركة أخرى، فبدأ في قسمة الغنائم، وأعطى من أعطى، أعطى الطلقاء، أعطى الذين فروا، أعطى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئا، والأمر مؤثر، ولكن كان في ذلك حكمة عظيمة جدا، حيث أراد أن يسترق قلوب هؤلاء، وفعلاً، كما ورد أن صفوان بن أمية يقول: ((أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي)).
وجاءه أبو سفيان فقال: ((أعطني يا رسول الله))، فأعطاه مائة من الإبل. قال: ((أعط ابني معاوية مثلها)) فأعطاه مثلها. ثم قال: ((أعط ابني يزيد مثلها)) فأعطاه مثلها، فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم.
أمر مهم، لما وزع الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم، وكما رأيتم، يعطي الأعرابي مائة من الإبل، ثم مائة من الإبل، ثم مائة من الإبل، وهم الذين لم ينصروه، بل ما دخلوا معه معركة إلا هذه المعركة، وفروا، ثم وزع كل هذه الغنائم -على كثرتها- ما أعطى الأنصار شيئا منها.
والأنصار رضي الله عنهم بشر من البشر، وجدوا في نفوسهم شيئا، قالوا: ((الآن لما وصل قومه، وفتح مكة، استغنى عنا، أعطى قومه وتركنا)) فأثر في نفوسهم.
جاء سعد بن عبادة (فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، ترى مشكلة وقعت: الأنصار الآن يتحدثون فيك، وقع في نفوسهم شيء، يقولون ما معنى أنه لم يعطنا شيئا، أعطانا في كل الغزوات إلا هذه الغزوة.
قال له الرسول: ((وأنت يا سعد؟)) قال: ((ما أنا إلا من قومي)) -صحيح-.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (( فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة))(رواه أحمد).
قال: ((فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة)) قال: ((فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم يدخلون. وجاء آخرون، فردهم)). فلما اجتمعوا له؛ أتاه سعد فقال: ((قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار)).
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (( يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجِدَةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم؟
ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟
وعالة فأغناكم الله؟
وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟
قالوا: ((بلى، الله ورسوله أمَنّ وأفضل)).
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
قال: ((أجيبوا)) قالوا:
((بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل)).
قال صلى الله عليه وسلم : ((أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُّدِقتم: ((أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك)).
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟
ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟
فوالذي نفس محمد بيده؛ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا؛ لسلكت شعب الأنصار.
اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)).
وهذا درس عظيم للداعية المربي:
أولاً: دور سعد بن عبادة: إخباره للرسول صلى الله عليه وسلم بما جرى؛ هذا أمر عظيم، حتى يستدركه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أهمية تحسس الداعية ما في نفوس طلابه وأتباعه: طالب العلم يجب أن يعرف ما في نفوس أصحابه وأتباعه، الأب يجب أن يعرف ما في نفوس أبنائه، قد لا تستطيع أن تصل إلى بعض ما في نفوس أبنائك، ولكن تستطيع عن طريق زوجتك، قد يهابك الأولاد فلا يخبرونك بما في نفوسهم، يجب أن تصل إلى ما في نفوسهم عن طريق والدتهم، أو عن طريق أحد إخوانهم، الداعية يجب أن يصل إلى نفوس من معه من المدعوين عن طريق أحد هؤلاء، وأن يتحسس هذا الأمر.
ثم كيف عالج الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف؟ هل استهان بذلك ؟ كلا وحاشا، بادر سريعاً وقال: “اجمعهم”. فجمعهم، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم وسمح لبعض الرجال من المهاجرين أن يدخلوا، ورد البقية، لأن هذا اجتماع خاص للأنصار.
ثم انظروا المعالجة العجيبة! هل جلس الرسول صلى الله عليه وسلم يعظهم فقط؟ لا، قال: ((أعطوني ما في نفوسكم)) قالوا: ((ما في نفوسنا شيء)) قال: ((لا، في نفوسكم شيء، قولوا لي)) فاستحوا. قال: ((أما والله لو قلتم لصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، ملاحقاً فآمناك)) كما سمعتم في الرواية.
صحيح هذا الذي كان في نفوسهم: ((إنه لما جاءنا طريدا ونحن الذين آويناه، ونحن الذين أغنيناه، ونحن الذين حميناه، ولما استغنى عنا الآن تركنا)) كلام عجيب. فبكوا بكاء شديدا؛ لأن الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي في نفوسهم. ثم نقلهم نقلة عجيبة صلى الله عليه وسلم.
الداعية يجب أن يكون يقظا متحسسا، ينظر نفوس من معه، يعالج المشكلات، لا يكون في صومعة بعيدا؛ الرسول صلى الله عليه وسلم تحسس هذه المشكلة وتابعها وهذه من أهم ما يجب أن يعنى به الداعية: معالجة الأمور النفسية؛ أصحابك، أبناؤك، تلاميذك- بشرٌ يعتريهم ما يعتري البشر من النقص ومن الضعف، فتحسس مشاكلهم.
مهمة الداعية، أن يكون رحيما بطلابه، يتحسس مشاكلهم، يرفع من معنوياتهم، يزيل ما رسب في نفوسهم، ثم انظروا إلى الشيطان، كيف يدخل في مثل هذه القضايا وهم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم الذين عاشوا معه؟.