ذ. مصطفى اليعقوبي – أستاذ الفلسفة بوجدة -
ليست التربية مجموعة من القواعد والمفاهيم النظرية التي لا سلطان لها على الواقع، على عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء … وكل حقيقة لا تؤثر على الثالوث الاجتماعي: الأشخاص، والأفكار، والأشياء، هي حقيقة ميتة<(مالك بن نبي
مقدمة في عقم العملية التربوية والتعليمية وأثرها على الانحسار الحضاري للأمة
من البدهي أن أي مجتمع بشري؛ لا بد له من نظام تربوي معين، وهذا من ضرورات وحدته وبقائه واستمراره، هذا النظام التربوي هو الذي يمكن من بناء الشخصية داخل مجتمع ما بناء تستطيع من خلاله الاندماج في الجماعة والتكيف مع معطياتها.
من هنا يمكن أن نرد كل ما تصاب به الأمم من نكبات وانكسارات؛ إلى خلل في أنظمتها التربوية. يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: “إن غياب عقلية التخطيط، وغياب عقلية التخصص، وغياب عقلية النقد والمراجعة، ووجود الفراغ، والقابلية للغزو الثقافي، والاستلاب الحضاري، وانطفاء الفاعلية، وغياب القلق الحضاري الذي يحرك الأمة صوب أهدافها بإرادة جازمة وقدرة مبصرة، والاغتراب التاريخي والاغتراب المعاصر، والتراجعات الحضارية الإسلامية في شتى المجالات، معناه أن العطب لحق بأجهزة العملية التربوية والتعليمية، فأصابها بالعقم وعدم الإنتاج”(1).
ولست أبالغ إذا قلت إن مقياس تقدم المجتمعات وانحطاطها هو مدى قدرة أنظمتها التربوية ومؤسساتها على إنتاج الإنسان وبنائه بناء متماسكا متوازنا، وقد أدركت الأمم القائدة في عالم اليوم ما للتربية من أهمية ودور خطيرين في تركيز صدارتها، والحفاظ على قيادتها وريادتها، فالولايات المتحدة الأمريكية لما سُبِقت إلى غزو الفضاء من قبل الاتحاد السوفياتي؛ دقت ناقوس الخطر واعتبرت أن السبب في ذلك راجع إلى خلل ما في النسق التربوي والتعليمي، أدى إلى عدم إنتاج الإنسان الأمريكي المبدع في هذا المجال، أي الفضاء. وقد دفع هذا الأمر الأمريكان إلى تشكيل لجان مختصة لدراسة الوضع التربوي وتحديد مواطن الخلل، وذلك لإنقاذ ما سمي آنذاك ب (الأمة المعرضة للخطر).
والناظر في تاريخ الأمة الإسلامية وأسباب تمزقها وتراجعها الحضاري؛ يدرك أن ذلك راجع بالأساس إلى خلل تربوي تمثل في البعد عن منهج الإسلام في التربية والتوجيه. يقول الأستاذ محمد قطب: “ولئن كان الزمن قد مزق هذه الأمة وشتت كيانها على مراحل بطيئة استغرقت أكثر من ألف عام؛ فقد كان سبب التمزيق، على أي حال، هو البعد عن منهج التربية الإسلامية…”(2).
وفي العصر الحديث لما قامت -في العالم الإسلامي- الصيحات الأولى للنهضة؛ كانت همم المصلحين متجهة بالأساس إلى ضرورة الإصلاح التربوي والتعليمي. فهذا الشيخ محمد عبده -رحمه الله- ارتفع صوته -كما يقول- بالدعوة إلى أمرين عظيمين، هما: إصلاح نظام التعليم بالأزهر الشريف، والإصلاح اللغوي. وهذه دول شرق آسيا أو ما بات يعرف ب (النمور الآسيوية) ما كان لها أن تحقق هذه القفزة وهذه النهضة الشاملة لولا الثورة التربوية والتعليمية.
فالتربية إذن، ضرورة إنسانية وحتمية اجتماعية، لكنها مع ذلك سلاح ذو حدين، فإما أن يحسن استعماله فيصنع إنسانا إيجابيا فاعلا، وإما أن يساء استخدامه فيردي هذا الإنسان ويقتله ويصيبه بالسلبية والعجز.
في مفهوم التربية
بعد بيان أهمية التربية وضرورتها؛ فقد آن الأوان أن نتساءل:
- ما المقصود بالتربية التي لا تستقيم حياة الإنسان إلا بها؟
للتربية، من حيث الاشتقاق اللغوي العربي، أصول عدة، منها:
1- الأصل الأول: فعل ربا يربو، أي: زاد ونما. وبهذا المعنى، ورد قوله تعالى: {وما آتيتم من ربا لتربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله}(الروم : 38).
2- الأصل الثاني: فعل ربي يربي، بمعنى نشأ وترعرع، ومن هذا قول الشاعر:
فمن يك سائلا عني فإن بمكة منزلي وبها ربيت
3- الأصل الثالث: فعل ربه يربه (تضعيف الباء)، بمعنى أصلحه وتولى أمره وساسه وقام برعايته والمحافظة عليه، ومنه الرب.
ومما جاء في لسان العرب عن مادة (ربب) قول ابن منظور:
“الرب هو الله عز وجل وهو رب كل شيء أي مالكه…
وفي حديث أشراط الساعة: وأن تلد الأمة ربها أو ربتها، قال: الرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم…”(3).
” وربه يربه ربا: ملكه، وطالت مربتهم -الناس- وربابتهم أي مملكتهم…
وقال ابن الأنباري: الرب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: يكون الرب المالك، ويكون الرب السيد المطاع؛ قال الله تعالى: {فيسقي ربه خمرا} أي سيده؛ ويكون الرب المصلح، رب الشيء إذا أصلحه؛ وأنشد:
يرب الذي يأتي من العرف
أنه إذا سئل المعروف زاد وتمما”(4).
“وترببه، وارتبه ورباه تربية على تحويل التضعيف، وترباه، على تحويل التضعيف أيضا، أحسن القيام عليه، ووليه حتى يفارق الطفولية، كان ابنه أو لم يكن…”(5).
“والسحاب يرب المطر أي يجمعه وينميه…
والمطر يرب النبات والثرى وينميه…”(6).
“والمرب، المحل ومكان الإقامة والاجتماع. والتربب الاجتماع. ومكان مرب، بالفتح: مجمع يجمع الناس…”(7).
“والربيبة: الحاضنة؛ قال ثعلب: لأنها تصلح الشيء، وتقوم به، وتجمعه…
ورب المعروف والصنيعة والنعمة يربها ربا وربابا وربابة، حكاهما اللحياني، ورببها نماها، وزادها، وأتمها، وأصلحها…
ورببت الأمر، أربه ربا وربابة: أصلحته ومتنته…”(8).
ويستنتج من هذا أن المعاني اللغوية لمادة (ربب) ترجع إلى:
- ملكية الشيء والسيادة عليه.
- إتمام الشيء وإكماله.
- الجمع والاجتماع.
- نمو الشيء وزيادته أو العمل على تنميته وزيادته.
- التنشئة والرعاية.
- المحافظة على الشيء وحسن القيام عليه وإصلاحه وجعله قويا متينا.
ويمكن -من باب الدلالة الالتزامية- أن تدل كلمة التربية على معنى التدرج؛ فهو معنى لازم للمعاني السابقة، بهذا فسر البيضاوي لفظ (الرب) في قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)، حيث قال: “الرب في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به تعالى للمبالغة”(9).
والمعروف أن المعنى اللغوي للفظ يتسم -عادة- بالشمول والعموم، في حين يكون المعنى الاصطلاحي أقل شمولا وعمومية؛ حيث يقيد اللفظ بمجال معرفي معين. وأحيانا يتباعد المعنيان اللغوي والاصطلاحي إلى الحد الذي تختفي فيه العلاقة بينهما، وتارة تظهر الدلالة اللغوية للفظ حتى تكاد تطفو على سطح المعنى الاصطلاحي فتتجلى العلاقة بوضوح كما هو الحال بالنسبة للفظ (تربية).
فتصبح التربية بذلك عملية إصلاح للكائن البشري، القيام بأمر جسمه وروحه وعقله وعواطفه ومشاعره … وهذه العملية تقتضي الرعاية والمحافظة عليه، وتستهدف البلوغ به درجات الكمال المهيأ له وذلك عبر مراحل نموه المتتالية.
حول مفهوم التربية في الوحي
رغم ما يبدو من عموم العملية التربوية وشمولها لجوانب الحياة الإنسانية؛ فإن البعض يرى أن التعليم أعم وأشمل من التربية، وحجته في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث معلما؛ فقد كان يعلم صحابته القرآن تلاوة وتدبرا وفهما وإدراكا، ثم تَلَتْ هذه الخطوة، عملية تزكية النفوس وتنقيتها من الشوائب، استعدادا لتلقي الحكمة والعلم النافع. في حين التربية تعني الإعداد والرعاية وهذا أمر يتم في المراحل الأولى لنمو الإنسان. وهكذا يصبح العلم أعم حيث يشمل أنواع المعارف والمهارات والاتجاهات التي تنعكس على سلوك الإنسان وتصرفاته(10). وقد يكون لهذا الرأي شيء من الصواب؛ خصوصا إذا استقرأنا استعمالات القرآن الكريم لفعل (ربى) بمعنى الرعاية والتنشئة. وإننا نلاحظ أن كتاب الله لم يذكر هذا اللفظ بهذا المعنى إلا في موضع واحد، وفي سياق الحديث عن الأعوام الأولى من عمر الإنسان: (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين…)(11). وقد استعمل القرآن الكريم لفظ (التزكية) مقترنا بتلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة في مواضع أربعة:
1- {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آيتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم…}(البقرة : 128).
2- {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آيتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة…}(البقرة : 150).
3- {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة…}( آل عمران : 164).
4- {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة…}(الجمعة : 2).
ونخلص من هذه النصوص القرآنية إلى النتائج التالية:
- في المواضع الأربعة كلها، تم تقديم عملية التلاوة لآيات الله على كل من عمليتي التزكية والتعليم للكتاب والحكمة.
- في مواضع ثلاثة تم تقديم عملية التزكية على عملية التعليم، وفي موضع واحد قدمت عملية التعليم للكتاب والحكمة على عملية التزكية.
- الموضع الذي قدم فيه التعليم على التزكية جاء في سياق الدعاء وهو من صيغ الإنشاء، في حين جاء تقديم التزكية على التعليم في المواضع الثلاثة بصيغة الخبر.
ويذهب الأستاذ عبد الرحمان الباني في الاتجاه المعاكس، حيث التربية -عنده- أعم وأشمل من التعليم، فالتعليم جانب من جوانب التربية، أو هو وسيلة تستعين بها العملية التربوية لبناء وتكوين الشخصية الإنسانية. والغالب على معنى التعليم انصرافه إلى ما هو معرفي فقط(12).
وللأستاذ محمد سيف الدين فهمي رأي ثالث ذهب فيه إلى أن الفرق بين التربية والتعليم هو فرق في المؤسسات والأهداف13، فبالنسبة للتعليم -والذي يمثل عنده العملية المقصودة- تنشأ له مؤسسات تتمثل في المدارس والمعاهد العلمية، ويختار له أشخاص معينون للقيام بهذه المهمة، كما تحدد أهدافه بشكل أكثر دقة. أما التربية فتتنوع مؤسساتها -من حيث طبيعتها وأشكالها- فتبدأ من الأسرة ثم تتفرع إلى أبناء الحي من الرفقاء، والمسجد، والنادي، والجمعية الثقافية أو الرياضية، والإعلام،….
ولعل ما ذهب إليه ذ. عبد الرحمان الباني من عموم التربية وشمولها هو الراجح، إذ يجد سنده في الأصول اللغوية الاشتقاقية للفظ (تربية). ويبقى التلازم بينهما قائما إذ لا تعليم بدون تربية ولا تربية بدون تعليم.
————-
1- مقدمة كتاب الأمة “مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح”، الدكتور ماجد عرسان الكيلاني، عدد: 29. ص: 12.
2- “منهج التربية الإسلامية”، محمد قطب:1/ 10.
3-ابن منظور، “لسان العرب”:1/399، مادة (ربب).
4- ابن منظور، “لسان العرب”:1/400-401.
5- نفسه1/401.
6- نفسه1/402.
7- نفسه، ص: 403.
8- نفسه، ص: 405.
9- نقلا عن عبد الرحم?ن النحلاوي، “أصول التربية الإسلامية وأساليبها”، ص: 13.
10- “من الأصول التربوية في الإسلام”، عبد الفتاح جلال، ص: 16 ـ 19.
11- سورة الشعراء. الآية: 17.
12- “مدخل إلى التربية في الإسلام”، عبد الرحم?ن الباني، ص: 24 ـ 26.
13- “التخطيط العلمي”، محمد سيف الدين، ص: 12 ـ 13.