الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا..
عباد الله : تعلمون أن الله عز وجل هو مالك السماوات والأرض، وأنه اختار أن يخلق هذا الإنسان وينيبه عنه خليفةً في الأرض لمدة معينة، وقد أمره أن يحافظ على هذه الأرض التي سلمها إليه بعد إصلاحها، وأخبره أنه مستخلَف فيها فقط، وأنه إن أحسن فيها، وسخرها في طاعة الله عز وجل مكّن له فيها، وأنه إن أساء نزعها منه وورّثها لغيره.
فالاستخلاف مشروط بصيانة الأرض، وعدم إتلاف ما فيها من إصلاح، وعدم تسخيرها في معصية المستخلِف و هو الله سبحانه، قال تعالى : {لله ما في السماوات وما في الأرض}، وقال سبحانه : {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} وقال تعالى : {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} وقال عز وجل : {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} وقال سبحانه : {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده} وقال عز وجل : {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}.
فملك الله دائم، وملكيتنا معارة ومؤقتة، فمهما ملكت من أراضٍ أو دور أوشجر، أو حيوان أو أثاث، أو مراكب أو نقود… فهي مُعارة لك، مؤقتة بين يديك، إما أن تموت وتتركها لغيرك، أو ينزعها المالك الحق من يدك، ويسلمها إلى غيرك، والأمثلة التاريخية قائمة وماضية ثابتة، وسوف تسأل عن كل ما ملكتَ سؤالين اثنين : من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ فلست حراً في طرق الكسب؟ ولست حراً في وجوه الإنفاق، وحديث ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع)).. ناطق بالتقييد عند الكسب وعند الإنفاق! وأنت مطالب أيضا بأن لا تسمح لسفيه أو فاسق أو كافر أن يسْتعمل مالك في منكر أو نشر كفر، أو إعانة محارب أو منع بِرّ، أو إقامة كنيسة، أو دار للدعارة أو حانة لبيع الخمور أو غير ذلك مما يسيء لأرض الإسلام وأهل الإسلام وتاريخ الإسلام ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
عباد الله : لقد تفشت في أيامنا ظاهرة بيع الدور العتيقة في المدن العتيقة كفاس ومراكش وسلا وتطوان، لليهود والنصارى والمجوس والوثنيين، من مختلف البلدان وبدون شروط ولا قيود، وربما تباع المدارس والمعاهد والزوايا، وقد يتطور الأمر إلى بيع المساجد والمصليات وأبواب المداخل الكبرى في المدن العتيقة وأبواب المساجد وثرياتِها وأثاتِها ومآثِرها. فمنا من يبيع داره، ومنا من يبيع أرضه، ومنا من يبيع التحف العتيقة من سروج وركاب ورماح وسيوف ورخام وسجاد وثريات وعرى الأبواب ودفاتها المنقوشة على النحاس أو الخشب أو الفضة إلى غير ذلك من الآثار التي لا يُدرِك أهميتها الفنية والثقافية والتاريخية إلا الأجانب الذين يتنافسون ويتسابقون في أثمانها واقتنائها، وحوزها إذا لم يتأت لهم أن يسرقوها وينهبوها ويغصبوها ثم يعرضونها في متاحفهم الخاصة خارج البلاد الإسلامية، منا من يبيع ذلك اضطرارا، ومنا من يبيع ذلك اختيارا مباشرة أو على سماسرة يتغالون في الأثمان.
فهل تعلمون أن الأراضي الإسلامية قامت عليها حروب جهادية وأريقت عليها دماء الشهداء، وكانت ميداناً لتعليم القرآن والسنة، ومجالا لإقامة العدل والقسط، ومحطاتٍ لتربية الناس على مكارم الأخلاق، ومقابر للأولياء والصالحين، والعلماء والمجاهدين؟
وهل تعلمون أن دور السلف بُنيت على تخطيط إسلامي، وقد كُتب ونقش فيها آيات وأحاديث وحِكم، وسكنها العارفون بالله، فكم ركعوا وكم سجدوا وكم بكوا وكم ذكروا وكم استغفروا وكم علّموا، وكم هذبوا وكم ربّوا بين جدرانها وتحت أسقفها وكم أنفقوا فوق عتباتها، وتالله لو نطقت جدرانها وأسقفها المشبّعة بأنوار الصلوات والتسبيحات والمضمخةُ بعطر التبتلات والدعوات والعامرةُ بأرواح الملائكة الشاهدين لقالت لمن يبيعها لغير المسلمين ألا تستحيي أن تستبدل طهر الملائكة بخبث الشياطين من الجن والإنس!
ألا تستحيي أن تغير الآيات والأحاديث بالتماثيل والأصنام والصليب!
ألا تستحيي أن تحول حالي من ذكر الله والبكاء والخشوع وقيام الليل وحلقات الذكر إلى الغناء والعبث، والخمور واللواط، وكل أشكال المخدرات والعري والرقص والمجون!
ألا تستحيي أن تبدل مهمتي من التعليم والتربية والجهاد والدعوة والنور والعرفان إلى نشر اليهودية والمسيحية والمجوسية والوثنية وكل ضلال وكل بهتان.
عباد الله : اعلموا رحمكم الله أن كل من يبيع شيئاً من ملك الإسلام اختياراً وجشعاً وطمعاً في الأثمان الباهضة، فإنه لن يجد جواباً يوم القيامة حين تحدِّث الأرضُ أخبارها! أما إذا كان البائع يقصد قصدا إلى بيع تراث الإسلام إلى الكفار تعاونا معهم وتجاوباً واستخفافاً واستهانة بتراث المسلمين واستبدالاً للضلال بالهدى، فهذا مقامُه في الدرك الأسفل من النار مع المنافقين، وبيس القرار. قال تعالى {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذاباً شديدا، إنهم ساء ما كانوا يعملون}(المجادلة : 14- 15).
ولا يقولن قائل هذا ملكي ومتاعي، ومن حقي أن أبيعه متى شئت ولمن شئت، فقد سبق القول لمن يعقل أن هذه الدنيا إنما هي ملك الله تعالى، استخلفنا فيها لعبادته، لا للإفساد فيها، ولا للتخلي عنها لكافر يقيم فيها المنكر ويمنع فيها المعروف، وإذا كان الله تعالى قد نهانا عن ترك المال للسفيه منا يفسده و يضيعه، فكيف حالنا إذا سلمنا أموالنا وأرضنا وديارنا للكافر الحاسد الخبيث : واعلموا رحمكم الله أن من حافظ على تراث المسلمين فإنما يحافظ عليه لكافة المسلمين حالاً ومستقبلاً، وسيثيبه الله على ذلك. وأن من أضاع تراث المسلمين فقد أضاع حقوق المسلمين جميعاً في ذلك التراث، ماضياً وحالاً ومستقبلاً فليستعد لأداء هذه الحقوق الكثيرة، وأنى له ذلك، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، وبعد :
إن بيع الأراضي والممتلكات العتيقة الإسلامية لغير المسلمين، أو بيعَها للمسلمين الذين يسخرهم غيرُ المسلمين ضدا على الإسلام والمسلمين، أو المسلمين الذين يفعلون ما يفعله غير المسلمين، هو بيع حرام يجب على المسؤولين النظر فيه من أجل منعه وإيقافه، وإرجاعه من أيدي المشترين المفسدين إلى أيدي المواطنين المسلمين، لأن استمرار بيع أملاك المسلمين لغيرهم سيؤدي إلى فرض الحماية ثم الاستعمار مرة أخرى، والأمثلة كثيرة من المغرب، وفلسطين، والعالم العربي والإسلامي الذي استُعمِر من قبل الغرب الغادر، والتاريخ يعيد نفسه كما هو معلوم، وعودةُ الاستعمار العسكري تعني خضوع البلاد الإسلامية بمن فيها وما فيها للسيطرة النجسة الوثنية الملحدة. فهل علمتم خطورة بيع الأراضي والديار والممتلكات الإسلامية لغير المسلمين، إنه ظلم شامل للأمة، واحتقار سافر، وإهانة لمن سلف، وإضاعة لحقوق الخلق وسيحاسبُ البائع غيرَ المضطر أسلافُه وأبناؤه وأحفاده إلى يوم القيامة، إنه بيع فاسد، وصفقة مقيتة، تدفع الأبناء إلى الاستهانة بتراث السلف وجهودِهم واستبدالها بالذي هو أدنى، وهذا إفساد لعقيدتهم، وإضاعة لشخصيتهم التاريخية وشرفهم التليد، ومجدهم الموروث.
وإننا من هذا المنبر ننبه المسؤولين على كل صعيد وكل مستوى، ونذكر العلماء، وكلّ من له سلطة أن يعملوا على إيقاف هذا النزيف في تراثِ الأمة ومكوناتِ حضارتها وعوامل شرفها وقوةِ تاريخها، ونرغب الأثرياء والأغنياء الغيورين على الدين والوطن، أن يبادروا إلى تكوين جمعية أو منظمة أو هيئة يكون لها حساب مالي مهم، يخصَّص لشراء الأملاك الإسلامية إما لأنفسهم وأبنائهم وأحفادهم، أو لاستعمالها في المصالح العامة، كالتعليمية والتثقيفية والتربوية والتأهيلية والاستشفائية والإيوائية والتوجيهية والرياضية وغيرها..
ونذكِّر البائعين المضطرين إلى غير المسلمين -إذا غابت سلطة الدولة والعلماء، أن يشترطوا في عقد البيع أن لا يستعملها الكافر في المعاصي والفجور، وألا يستعين بها على نشر المسيحية والدعوات العدائية، التي تخرِّب عقيدة المسلمين وتفسد أخلاقهم وأفكارهم، ورحم الله عبداً من هذه المدينة الإسلامية العريقة، لأنه ترك وصية لأبنائه وأحفاده ألا يبيعوا شيئا من ممتلكاتهم لغير المسلمين، فهذا هو المسلم الذكي الواعي، الكيس الفطن، المسلم الغيور على دينه ووطنه وفلذات أكباده فرحمه الله في الدنيا والآخرة، وبارك في ذريته ماداموا على العهد، وأكثر من أمثاله.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين…