الحداثيون في بلادنا لا يعرفون على وجه التحديد ماذا يريدون.. لقد بهرتم النار اليونانية المقدسة فسرقوها ولكنهم كانوا أصغر من استيعابها وتوظيفها.
وليس القصد مسألة الفهم والإدراك، وإنما هو عدم القدرة على حمل الوقر الثقيل والسير به إلى نقطة محدّدة.. توظيفه من أجل هدف تكتيكي أو استراتيجي أكثر أصالة في صراعنا الثقافي ومعطياتنا الأدبية.. لقد اندفع بعضهم بسبب من هذا الذي ناءت به الكواهل.. اندفع بأكثر مما يحب صوب الطرف الآخر، فتغرّب وضاع هناك. ومن يدري فلعلّه اقتنع في نهاية الأمر بتفوّق الثقافة الغربية فأعلن استسلامه لها وفق طريقة مقنعّة. لكن “اللعبة” ليست صعبة على أية حال، ويمكن اكتشافها بسهولة.
آخرون أرادوا التوظيف، بعضهم في سياق الماركسية المقهورة، وبعضهم الآخر في سياق الليبيرالية واللا دينية والإلحاد في منظوره الغربي.. ما درى هؤلاء أنهم يقومون بعملية حسابية مستحيلة، وأنهم يجمعون التفاح والبرتقال للوصول إلى رقم مستحيل في منطوق الحساب.. إنهم يريدون إرغام ثقافتنا وتراثنا وتاريخنا.. بل حتى عقيدتنا ورؤيتنا للحياة على المرور من المنظور الحداثي الذي يرفض الثوابت ويمضي، في حمى النزوع التغييري، متجاوزاً الكثير من المؤسسات الحضارية والعقدية والاجتماعية، حيناً، رافضاً الكثير من التأسيسات اللغوية والثقافية حيناً آخر.
التقاطهم للحركات التخريبية (إذا جازت التسمية) تأتي في هذا السياق.. تدمير الثوابت والجري وراء المتغيرات حتى ولو قادت إلى الخراب.. حتى ولو ارتطمت بالمعطى الحضاري المتفق عليه.
مهما يكن من أمر فان هذا يجب ألاّ يدفع الأدباء الإسلاميين، بردّ فعل غير مدروس، إلى الطرف النقيض الآخر.. إلى رفض التعامل مع تيارات الحداثة وكشوفها ومناهجها التي تنطوي ولا ريب على قيم معرفية في غاية الأهمية والفاعلية.. إنهم بهذا يفرطون بفرصة جيدة للتوظيف.. للإضاءة.. لتعميق المسيرة الأدبية في جناحيها الإبداعي والنقدي ـ الدراسي.
أشياء كثيرة يمكن أن تقال عن موقف شعرائنا ونقادنا وأدبائنا الحداثيين أو المحسوبين على اليسار، كما كانوا يسمّون أنفسهم يوماً. ولكن الأهم من هذا هو ألاّ نشغل أنفسنا بهم، وألاّ تعيقنا أخطاؤهم عن التبصّر الجاد فيما يقدمه العقل الغربي من كشوف ومعطيات.
إن أحد المطالب الأساسية للحظة الراهنة هي محاولة سبر هذه التيارات وإدراك نقاط الإيجاب والسلب فيها.. إن هذا سيمنح الأدب الإسلامي فرصة جيدة لكي يكسب عمقاً إضافياً هو بأمس الحاجة إليه، فضلاً عن أنه سيعين هذا الأدب على أن يكون في قلب العصر، وعلى أن ينسج خطابه الإبداعي والنقدي من المفردات التي يتعامل بها مثقف العقد الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين.
إن اعتبار كل ما يجيئنا من الغرب شرّاً، إنما هو رؤية خاطئة وقع إسارها الكثيرون عبر القرنين الأخيرين، فقادتهم إلى المزيد من العزلة وتضييع الفرص المناسبة للتوظيف.
فالحداثة ليست جهداً مبّسطاً وإنما هي معمار ذو طبقات وأدوار. من بين هذه الأدوار ما يرتبط برؤية الحداثيين للكون والحياة والإنسان.. للوجود والمصير ولمغزى الظاهرة البشرية في العالم، وهو تصوّر ينحرف في معظم الأحيان عن سويّته باتجاه ما أطلق عليه (والاس فاولي)، وهو يتحدث عن السرياليين في كتابه (عصر السريالية) : الجنون والظلام والدجنّة.. وصولاً إلى العبث واللامعقول.
إن الحداثيين يندفعون -كعادة العقل الغربي- إلى المدى ثم ما يلبثون أن يتراجعوا ويعلنوا تبرّءهم مما كانوا فيه.. إنها -إذا استخدمنا المفردات القرآنية- الأهواء والظنون والأسماء التي لا سلطان لها : {إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلاّ الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى}.
ثمة دور آخر لتيار الحداثة، أقرب إلى التقنيات المحايدة التي يمكن توظيفها وبخاصة في مجال النقد التطبيقي. إنها ـ والحق يقال ـ بمثابة كشف في غاية الأهمية يمكن إذا أحسن التعامل معه التحقق بإضاءة أشد نفاذا للنصوص الإبداعية. شرط أن نكون حذرين لأن هذا الجانب نفسه قد يتجذّر في التصوّر أو الرؤية.. فإذا استطعنا أن نحقّق قدراً من فك الارتباط بين القطبين كان التوظيف أكثر جدوى.. والفرصة أكثر مواتاة للإفادة من الخبرة الحداثية في أكثر حالاتها موضوعية وحياداً..