ذ. امحمد رحماني
إنه ليبدو للناظر في عناصر أي مجتمع كان لأول وهلة من تناسقٍ عجيب تتداخل فيه جزئياتُه فلا ترى فيه عِوجا ولا أمْتاً، هذا رجلٌ بلباس التعليم! وهذا رجل بلباس المحاماة! وهذا رجل بلباس الجيش! فتدرك أن لكل منهم عملا يقوم به، فتدرك أن لهذا المجتمع توازنا يحفظ تواجده فلا يربو هذا المجتمع أن يكون عبارة عن مجموعة من الأفراد، لكل منهم دور يؤديه. كمثل ضوء الشمس لا يحيد عنه قيد أُنملة. ترى النور ينبثق منها جاعلا الطريق أمامك على مرأى منك، فتميز السِراج من المِراج وإذا ما حَقَّقْت ودققت تدرك أن ذلك الضوء ما هو إلا أطياف، لكل طيف منها لون، فلا يعدو الضوء أن يكون مجموعة من الأطياف المنصهرة فيه، ولا يعدو المجتمع أن يكون حُزمة من الناس لكلٍّ دوره، بالرغم من اختلاف الأطياف والأشكال إلا أن المظهر واحد، والدافع للاندماج واحد، فاختلفت الأطياف في تكونها لكنها اتحدت في مظهرها، فخلقت بذلك توازنا أدى دوره في الإضاءة، فكذلك المجتمع اختلفت الأشكال التي يظهر الناس عليها لكنها اتحدت في الهدف الذي تسعى إليه.
غير أننا نجد اختلافا بسيطا بين المثالين (الأطياف -الأفراد) وبالرغم من بساطته إلا أنه ليحدد دور التوازن وأهميته، فمثلا إذا غابت الشمس أو حُجبت بالغيوم، فلن تكون هناك أطياف وإذا لم تكن هناك أطياف فلن يكون هناك توحد، ولن تكون هناك إضاءة، فهي مسألة طبيعة تدخل في السير الطبيعي للعوالم الكونية التي سخرها الله تعالى لهذا الإنسان فلا يحق لنا أن نسأل عن السبب أو نتدارس الغياهب فتلك قدرة الله عز وجل. وذلك ملكه يفعل فيه ما يشاء لا يسأل عما يفعل. والاختلاف الذي أشرت إليه آنفا ووصفته بالبساطة يظهر هنا بوضوح، فالسبب الذي جعل مهمة الأطياف تفشل هو سببٌ طبيعي قُدِّر له ذلك من قبل خالق الكون، لكنه يظهر في حال الأفراد وتوحدهم لتشكيل المجتمع، فإذا ما ظهرت غيمة نفسية أو اجتماعية أو غيرها من تلكم المصطلحات، هل يسعنا أن نشير إليها بأنها أمر طبيعي لابد من الخضوع له والركون إليه، فيخيب سعي الأفراد وتنحط أخلاق الناس ويسقط المجتمع في بركة من التفسخ الأخلاقي والميوعة والتخلف والأمية والاشتغال بسفاسف الأمور.
إننا بذلك قد نحيف في الحكم على أسبابه بأنها مسألة طبيعية تحكمها الأقدار الإلهية. بالطبع لاشك في الأمر الثاني إذ أنه لا يوجد شيء يخرج عن القدرة الإلهية المحيطة بعلم العوالم، ونحن نعلم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قيل له : أتفر من قدر الله؟ قال : أفر من قدر الله إلى قدر الله)).
لكن في الأمر الأول نظر، ويحتاج إلى مناقشة بادية الأطراف، بأن تطلق على الأمر ببساطة أثناء تخلف المجتمع وفساده وبأنه أمر طبيعي لا دخل للإنسان فيه، فهذا قول لا يمت للصواب بصلة، بل لا يعدو أن يكون من أعذار الذين سقطوا في شراك العجز عن إصلاح المجتمع بعد فساده.
إن الإنسان حينما يفقد قابلية التعايش في مجتمعه فذلك بسبب المسوّغ الذي أساغه له المجتمع الذي يعيش فيه، إما بالعجز أو بالأوهام أو بالشعور بالمنبوذية، ولكن أريد أن أشير هنا إلى جانب آخر يعجز فيه المجتمع أن يقدم للفرد الذي ينشأ فيه مسوغ نجاحه، فكما يعطي المجتمع للانسان مسوغ حياته كذلك يعطيه مسوغ موته، فإذا عجز المجتمع بصفة عامة عن أن يُقدم لمن ينشأ فيه بغض النظر عن جنسه، وظيفة معينة يمكن من خلالها أن يخدم وينفع بها مجتمعه فإنه في نفس الوقت يجعل من الفرد الذي ينشأ فيه فردا مقلدا لا قيمة له ولا خِلال. فتسقط رابطة الأبوة بينه وبين مجتمعه ورابطة الأمُومَة بينه وبين أرضه فلا تجد لهما أدنى قيمة عنده، فيصير يسعى لخراب مجتمعه وأرضه بعد أن كان يسعى لنموه وتطوره أو يقوم بما يجب عليه القيام به لقاء دريهمات يأخذها في آخر الشهر فيتعلق بالمال ولا يتعلق بالوطن والمجتمع فيموت اجتماعيا قبل أن يموت عضويا لأنه يشعر بأنه لا يملك شيئا يسهم به في حل أزمات مجتمعه فيصير هو بذاته أزمة من الأزمات بسبب وضعه الفكري الذي يشل قواه كلها ويجعل طاقاته معطلة بل ومسخرة لصالح غيره وهذا في حد ذاته إنجاح لمشروع الهيمنة الصهيونية على العالم الإسلامي.
إنني حينما أرى المعلم بطبشورته، والشرطي بانضباطه، والمحامي ببزته، والعامل بمعوله، أرى خليطا من الأفراد أستطيع تشكيل أمة به. لكل منهم دوره يقوم به بعد أن تعطى له حقوقه، ولكن تكون هناك أسباب طبيعية للفشل لأن موعود الله سيصدق بتغير المجتمع بعد تغيير الأنفس.
بصراحة، إنه يوم يختل التوازن الاجتماعي فسندرك بأن المعلم مع طبشورته أصبح معولا من معاول الهدم، لأنه ما قام بعمله ولذلك يُوفَّى بالتنكيل من طرف التلاميذ قبل غيرهم فيحق فيه قولهم:
قم للمعلم وفه التنكيلا
كاد المعلم أن يردى قتيلا
ولو قام بعمله لقيل :
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
وسندرك بأن الشرطي مع تكوينه أصبح معولا من معاول الهدم لأنه ما قام بعمله لذلك يوفى بالإهمال فيحق فيه قولهم :
قف للجلواز وقفة العملاق
فقد نحا عن طريق الإحقاق
ولو قام بعمله لقيل :
قف للجلواز وقفة الإجلال
فقد صار سيرة الشجعان
وكذلك المحامي والعامل وغيرهم من مكونات المجتمع، فهذه أمور ليست طبيعية بدون أدنى شك فهي أسباب تنبئ أن كل شخص قد توقف عن أداء مهمته ووظيفته فيختل التوازن، حتى وإن توقف فرد واحد من أولئك الأفراد فلن تقوم قائمة للمجتمع، فإذا ما اهتممنا بكل شيء ولم نهتم بالتعليم فلن يخطو المجتمع خطوة إلى الأمام وكذلك الأمن وكذلك الصحة.. كمثل المصنع يتم تشييده وبناؤه والمغالاة في تزيينه والإنفاق عليه ملايين الدراهم لكن إذا ما تعطلت آلة واحدة لا يقدر ثمنها بدريهمات عديدة بسبب الإهمال فإن المصنع سيتوقف عن العمل، كمثل الجسم ليس له أهمية إذا ما عطل عرق من العروق التي تمد القلب بالدم، ألاَ ترى إلى عامل النظافة ما قيمته (في أعين الجهال) لو دخل قاعة مملوءة بالمهندسين وكبار العلماء، لكن إن هو توقف عن عمله فسترى المدينة قد غرقت في بحار من الأوساخ والأوبئة والأمراض فيكون بذلك أرقى عملا من ذلك المهندس حتى وإن كان أجره زهيدا عن أجورهم، فالنشاط البشري يخضع للسنن وإن اختلفت هذه السنن عن سنن الآلة المادية، بذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من أعلمنا بضرورة المحافظة على التوازن الاجتماعي بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ما كان أحرصه على المسلمين وأرأفه بهم حين كا ن يبدئ ويعيد ليُقِرّ في الأذهان والأفهام التشابه الحاصل بين المادة والحياة والمجتمع. من حيث خضوع كل منها للسنن، السنن التي تفسر تماسك الجسم الصلب والسنن التي تبقي الكائن الحي في الوضع السليم، والسنن التي تحمي المجتمع من الانحلال فيذكر عليه الصلاة والسلام المثل المادي الملموس ويقرن به المثل الاجتماعي ثم يذكر المثل العضوي فيشبه به التوازن الاجتماعي، يقول صلى الله عليه وسلم في التشبيه الأول : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ثم شبك بين أصابعه))(صحيح البخاري) ويقول في التشبيه الثاني : ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى))(صحيح البخاري).
إن معرفة السنن التي تشد البنيان بعضه إلى بعض هي التي تمكن البناء أن يبقى متوازنا على مر الزمن.