في الأسبوع الماضي وصلني نعيُ أستاذي وشيخي: الشيخ محمد فهيم أبو عُبَيَّه من علماء الأزهر: التحق بالتدريس بكلية فاروق الشرعية ببيروت أواخر الأربعينيات .. وشاء الله أن ألتحق بهذه الكلية سنة 1952 التي أصبحتْ بعد الانقلاب العسكري بمصر تُعرف “بالكلية الشرعية “، تخرج فيها وعلى يديه كثير من علماء وأطر القضاء والتدريس وغيرهما .. وكان يدرسنا مواد التفسير والأدب والبلاغة، وكان الرجل عالما وأديبا وخطيبا فذّاً، ولم تقتصر رسالتُه على ميدان التدريس، بل قدم خدمات جُلَّى للمسلمين بلبنان في عدة ميادين، ومن أهم ما قام به إثر التحاقي بهذه الثانوية إصلاح ذات البين في أواسط المشايخ، إذ نشبت فتنة بين بعض المشايخ ببيروت وبين مفتي الجمهورية آنذاك،، وقد شاعت الفتنة حتى أصبحت تُتناول على منابر الجوامع الكبرى ببيروت، وهنا تدخل الشيخ فهيم واتصل بزعماء المشايخ وبالمفتي وجمع الفريقين وأصلح بينهما، وما زلت أذكر أنه قال للمعارضة رحمه الله رحمة واسعة إن هجومكم على المفتي وتشهيركم به إنما هو في الحقيقة تعريض بهذا المنصب الإسلامي المهم مما يجعله مسخرة ومهزأة لدى ذوي الأديان والطوائف الأخرى لذلك يجب المحافظة على مكانة هذا المنصب الديني الكبير الذي يمثل في الحقيقة الإسلام في هذا البلد … وهكذا استطاع أن يُطفئ هذه الفتنة التي شاهدت طرفا منها..
كان الرجل خطيبا عظيما حتى أنك قد لا تجد مكانك في المسجد الذي يخطب فيه … وكان المنبر عنده وسيلة لإصلاح الفرد والمجتمع ومن أهم ما أنجزه للمسلمين بلبنان: جامعة بيروت العربية…
فقد لا حظ أن للنصارى جامعة اسمها: الجامعة اليسوعية، وحتى الجامعة اللبنانية كانت في يد النصارى، وهناك أيضا الجامعة الأمريكية وليس للمسلمين جامعة. فألقى خطبة منبرية عن الموضوع، فما كاد يفارق المصلون المسجدَ حتى كانت الجامعة الإسلامية قد نشأت، فقد تقدم كثير من أهل الخير من المصلين والتزموا بالإسهام في إنشاء الجامعة، وفي مدة وجيزة تَمَّ بناؤها، لكن لم يكن في الوسط الإسلامي بلبنان من يضطلع بإدارتها والتدريس بها، فأُسندتْ إلى مصر وأُلحِقَتْ بجامعة الإسكندرية وحملت اسمَ جامعة بيروت العربية، تخرج فيها آلاف من طلاب المسلمين، وهكذا أتيح لهم أن يلحقوا بمواطنيهم اللبنانيين الذين يتخرجون في الجامعات الأخرى… وسبق لي أن كتبت مقالة في هذا الموضوع بعنوان “خطبة جمعة أنشأت جامعة ” بمجلة دعوة الحق.
لقد أنشأ أهل الفضل في بيروت هذه الجامعة في رمشة عين، وكان وراء ذلك خطبة جمعة صادقة وشيخ عالم مخلص… وهذه الظاهرة الخيرة تنطبق على العالم الإسلامي إذا كان في البلد سلطة مشجعة أو على الأقل غير معرقلة… ويمتاز الخليج بهيئات ومنظمات وجمعيات خيرية تنشط داخل أوطانها وخارجها ولا سيما في البلاد الإسلامية المحتاجة وفي أوساط الأقليات الإسلامية، وإن المحسنين والكرماء من المسلمين يزداد عددهم كل يوم لوجود قيادات صالحة وحائزة على ثقتهم وبكون نشاطهم واضحا وخاضعا للقواعد الإدارية الصارمة وللرقابة المالية الأمينة…
إن غياب الأعمال الخيرية أو ضعفها في بلد إسلامي ما ليس بسبب ضعف الإمكانيات وقلة المشجعين، ولكن بسبب غياب قيادات أمينة وقوية وفي المستوى اللائق وبسبب وجود سلطة حكومية سيئة لا تحسن الظن بشعبها.