قال تعالى : {يعرف المجرمون بسيماهم فيوخذ بالنواصي والأقدام فبأي ءالاء ربكما تكذبان هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن فبأي ءالاء ربكما تكذبان}(الرحمان : 41- 45).
قد ينجح المجرم في إخفاء جريمته، ويتقن فَنَّ التستر على ما يقترفه من فظائع، ويرتكبه من مصائب في هذه الحياة لكنه ينسى أنها لا تخفى عن الله مهما حاول إخفائها، ينسى أن الملائكة الموكلين يدونون ذلك في صحائف عمله، وسجلات أفعاله وأقواله، وسيقال له يوم القيامة {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} وهناك سيجد أن ما أخفاه قد انكشف، وأن ما كان يستره قد افتضح ويقول هو ومن على شاكلته من المجرمين كلّ المجرمين، وهم يرجفون ويولولون خوفا من جرائمهم التي اقترفوها : وامصيبتاه، مال هذا الكتاب قد أحصى كل شيء؟ وافضيحتاه مال هذا الكتاب لم يغفل أي شيء؟ قال تعالى : {ووضع الكتاب فترى المجرين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}.
في الدنيا يرتكب المجرم فعلته فيجد من يسترها عليه، ومن يحوله إلى مظلوم، في الدنيا قد يكون المجرم ألحن بحجته من ضحيته، وقد يكون أكثر مالاً وأقوى سلطانا فلا يُقتص منه، لكنه ينسى أن للمجرمين يوم القيامة علامات يعرفون بها أمام الخلائق، وبسمات يمتازون بها على رءوس الأشهاد، فلا يبقى مجال للتستر والتخفي، وينادي عليهم المنادي {امتازوا اليوم أيها المجرمون} تميزوا عن غيركم، وانفصلوا عنهم، واخرجوا من جملتهم ليعرفكم الناس بعلامات إجرامكم، {يعرف المجرمون بسيماهم فيوخذ بالنواحي والاقدام} و ربما امتاز بعضهم من بعض حسب درجات إجرامهم، فالغادر يعقد له لواء يوم القيامة مكتوب يه “هذه غدرة فلان”.
والذين يقعون في أعراض الناس تجعل لهم أظافر من نحاس يخدشون بها وجوههم.. وهكذا.. ثم يؤخذون -وقد عرفوا بعلاماتهم بين الخلائق- فينبهون أولا إلى سبب إجرامهم :إنه تكذيبهم أو غفلتهم عن جهنم مقر العاصين، ومستقر المجرمين، فيقال لهم تبكيتا وتوبيخا {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون} إنها الآن حقيقة ماثلة أمام أعينكم فماذا أنتم قائلون؟ ثم يُشْرع في التطواف بهم بين جهنم وبين حميم من نوع خاص، إنه حميم آن، أما الحميم فهو الشراب، ووصفه بالآن يعني أنه الحميم الذي بلغ في الحر غايته ومنتهاه أو أنه أحد أودية جهنم التي يتجمع فيها صديد أهل النار، وقد يجتمع الوصفان في الحميم، نسأل الله العافية.
لقد استحضر يزيد الرقاشي رحمه الله هذه المعاني وهو يقرأ هذه الآية من سورة الرحمن فكان له معها موقف أي موقف فقد عوتب على كثرة بكائه، وقيل له : لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا، فقال : وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن والإنس؟ أما تقرأ {سنفرغ لكم أيُّهَ الثقلان} أما تقرأ {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي ءالاء ربكما تكذبان فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي ءالاء ربكما تكذبان فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي ءالاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم فيوخذ بالنواصي والأقدام فبأي ءالاء ربكما تكذبان هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم ءان فبأي ءالاء ربكما تكذبان}(الرحمن : 35- 45) فجعل يجول في الدار ويبكي(1).
فاللهم إنا نعوذ بك من الإجرام، ونستجير بك من المجرمين، ونسألك أن تحفظنا من النار برحمتك يا كريم.
—–
1- التخويف من النار لابن رجب، ص 23.