سبق أن تحدثنا في العدد الماضي من المحجة (عدد 293) عن الهدف النبيل الذي من أجله وضع هذا المصطلح، ورأينا أن الكلمة العربية (التنمية) التي وضعت لتدل على هذا الهدف النبيل تحمل دلالة قدحية، وشرعنا في استعراض صيغ المادة التي يمكن أن تنتاب دلالتها مع المعنى الذي نعنيه، واتضح بعد استعراض دلالة مادتين فقط (نمى) و(نمَّى) أن (نَمَى) أنسب لأن مصدرها (النماء) يعني الزيادة والارتفاع، عكس مصدر (نمَّى) أي (التنمية) الذي يعني نقل الكلام على وجه الإفساد. كما هو مثبت في عدد من المعاجم العربية.
وقبل أن نستعرض الصيغ الثلاث التي أشرنا إليها في العدد الماضي ضمن ما ذكرناه لأجل التأكد والاطمئنان نناقش ما تبقى من دلالة فعل (نمّى) التي يمكن أن يُفهم منها الجانب الإيجابي أي دلالة (التنمية) (على النمو والزيادة)، وقد أشرنا إلى أن هذه الدلالة إن صحت لا تتجاوز 25% ويمكن تفنيد احتمال صحة هذه النسبة بما يلي :
- يظن أن لهذه الكلمة (التنمية دلالة إيجابية) بمعنى أنها تدل على النمو والزيادة، وهذا ما يمكن أن يفهم من قول ابن منظور : >وأنميت الشيء ونمّيته جعلته ناميا..))، لكن الملاحظ أن الشيء المُنمّى غير مذكور صراحة، حتى يكون قرينة تساعدنا على فهم (المفعول به) أي الاسم الذي وقع عليه فعل (نمّى) ذلك أن كلمة (الشيء) التي هي مفعول فعل (نمّى) أنكر النكران بمعنى أن (الشيء) اسم مجهول، ولذا بقي المعنى عامّاً غير مخصص. ويقيد هذا العموم في اللفظ، ويزيل عنه الغموض ذكر مفعول فعل (نمّى) في قول آخر لإبن منظور >ونمَّيت النار تنمية إذا ألقيت عليها حطبا وذكّيتها به ونمّيت النار رفعتها وأشبعت وقودها)).
هكذا يتضح أن ذكر مفعول فعل (نمّى) في المثالين الأخيرين يخصص دلالته ويوضحها، فالمقصود بفعل (نمّى) النار هنا هو إشعالها، وهذه دلالة حسية، وعندما تطورت هذه الدلالة إلى المجال المعنوي صارت قدحية، لأن نقل الكلام على وجه الإفساد يشعل الفتنة بين الناس ويغذيها كما يشعل الحطب النار.
- يعرف فعل (نمَى) نوعا من الاضطراب من حيث تحديد نوعه لدى الدارسين أهو متعد أم لازم، فمنهم من اعتبره متعديا فقط، ومنهم من اعتبره لازما فقط، والحقيقة أنه متعد في سياق، ولازم في سياق آخر، وهذا مكْمَنُ الانزلاق. ذلك أن من اعتبره لازماً عداه بالتضعيف على أساس أن تصاحبه دلالته وهو لازم، وثمة أفعال كثيرة تخضع لهذه القاعدة على أساس القولة المشهورة >الزيادة في المبنى تؤدي إلى الزيادة في المعنى)) وهي قاعدة غير مطردة، إذ أن الزيادة في المبنى أحياناً تودي إلى تنويع المعنى وهذا ما يتحقق في فعل (نمى)، ولا يتسع المقام لإعطاء أمثلة من هذا النوع، يقول ابن منظور بخصوص هذا الاختلاف >وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً ونَمى خيراً، قال الأصمعي : يقال : نَمَيْت حديث فلان، مخففاً إلى فلان أنْمِيه نمْياً بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، وأصله الرفع، ومعنى قوله نَمَى خيرا أي بلّغ خيراً، ورفع خيراً، قال ابن الأثير : قال الحربي نمّى مشدداً، وأكثر المحدثين يقولونه مخففاً، قال : وهذا لا يجوز، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، ومن خفف لزمه أن يقول خيرٌ بالرفع. قال : وهذا ليس بشيء فإنه ينتصب بنَمَى كما انتصب بقال : وكلاهما على زعمه لازمان. وإنما نَمَى متعد، يقال نمَيْت الحديثَ أي رفعته وبلّغته، ونمَيْت الشيءَ على الشيء رفعته عليه…)).
يلاحظ من خلال هذا النص أن فعل نَمَى متعد كما هو واضح في الأمثلة التي أوردها الأصمعي، سواء التي استهل بها النص أو التي ختم بها ردا على رواية ابن الأثير، في حين أن الحربي أورد فعل (نَمَّى) مشدداً ليتعدى، على اعتبار أنه لازم مخففاً، ويستفاد هذا من نقده لأكثر المحدثين الذين يوردونه مخففاً متعدياً، من جهة، ومقارنته له بفعل قال من جهة ثانية، وهذه حجة عليه أي على الحربي لا له. وهذا ما استغله الأصمعي ليرجح تعدي فعل نَمَى مخففاً كما ورد في الأمثلة الأخيرة من النص، والحقيقة أن فعل (نَمَى) يأتي لازماً أيضا، فقد مضى أن قلنا ونحن ندرس فعل نَمَى المجرد. >ولذا قيل نمَى الخضاب في اليد والشعر)) فلو كان فعل (نمَى) متعديا هنا لما احتاج إلى حرف الجر في. وفي هذه الحال، أي حال ورود فعل (نمَى) لازماً وقع الخطأ في اعتبار دلالة فعل نمّى على النماء والزيادة وهو مضعف استصحابا لدلالته مجرداً، اعتمادا على القاعدة التي تقول إن التضعيف يفيد التكثير، وفي هذا يقول ابن جني > ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلا على تكرير الفعل فقالوا : كسّر، وقطَّع، وفتّح))(الخصائص 155/2). وهذا صحيح ولكنه غير مطرد إذ أن المعاني التي تأتي لها صيغة (فعَّل) بتشديد العين كثيرة أحصى منها أبو حيان أربعة عشر، عند تفسير قوله تعالى : {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا، ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}(البحر المحيط 86/1- 87).
وعليه ينبغي اعتبار المسألة سماعية لا قياسية بمعنى أنه ينبغي أن نأخذ بما جاء في المعاجم لا أن نقيس فعل (نمى) على غيره من الأفعال التي تخضع لقاعدة الدلالة على التكثير التي سماها ابن جني في النص أعلاه التكرير.
وبهذا -والله أعلم- يزول الإشكال، ولا يبقى أي احتمال بأيّة نسبة لدلالة كلمة (التنمية) على النماء والزيادة وإنما يبقى المعنى الذي أثبته أهل اللغة لهذه الكلمة بلا خلاف على حد قول ابن منظور، وهو نقل الكلام على وجه الإفساد الذي يعني النميمة.
هذا ونتابع استعراض بقية الصيغ التصريفية كما وعدنا لأجل التأكد من دلالتها فقط، وإلا فالكفاية خاصة بما مضى.
حـ- (أنمى) : على وزن (أفعل) بزيادة الهمزة في أوله، ومعناه وجود الصيد ميتاً بعيداً عن أعين الصيادين، وقد يرادف (نمى) المجرد في دلالته على الزيادة أو النسبة يقول ابن منظور >ورميت الصيد فانْمَيْته إذا غاب عنك ثم مات، وفي حديث ابن عباس أن رجلا أتاه فقال : إني أرمي الصيدَ فأصمى وأنمى، فقال : كل ما أصميت (من صمى الصيد يصمي مات وأنت تراه) ودع ما أنميت (و) والإنماء : أن ترمي الصيدَ فيغيب عنك فيموت ولا تراه، وتجده ميتاً))(ل ع 343/15).
وهذا الاستعمال هو الذي لا يسمح بصلاحية كلمة (الإنماء) مصطلحا لأنها من باب المشترك اللفظي الذي لا يجوز الحد به.
د- (تنمّى) على وزن (تفعَّل) بزيادة التاء في أوله وتضعيف ثانيه وتدل على الارتفاع يقول ابن منظور : >وتنمّى الشيء تنَمِّياً ارتفع قال الشاعر :
فأصبح سيل ذلك قد تنَمّى
إلى من كان منزله ننزله بقاعا
(ل ع 342/15).
هـ- (انتمى) على وزن (افتعل) بزيادة الهمزة والتاء ويشترك مع (نمى).
و- (أنمى) في الدلالة على الرفعة والانتساب يقول ابن منظور : >ونَمَيْتُه إلى أبيه نمْياً ونُمْياً، وأنميته عزوته ونسبته، و(انتمى) هو إليه : انتسب وفلان ينمي إلى حسب وينتمي : يرتفع إليه…))(ل ع 342/15).
هكذا يتضح أن لكل صيغة (كلمة) من الصيغ المشار إليها دلالتها الخاصة، وإن كان البعض منها يشترك في معنى من المعاني أحياناً، كما أن لكل فعل مصدره الذي تتلخص فيه دلالته، وكل مصدر يختص بتسمية شيء مّا. إذ الملاحظ أن (النماء) مصدر نمى ينمي، و(التنمية) مصدر (نمَّى) و(تنَمِّياً) مصدر (تنمَّى)، و(الانتماء) مصدر (انتمى).
ولكل مصدر دلالته التي استقاها من فعله، فالنماء يدل على الكثرة والزيادة والتنمية يدل على نقل الكلام على وجه الإفساد، وكذلك الإنماء في بعض وجوهه والتنمي يدل على الارتفاع والزيادة مثل النماء…
وإذا عرضنا هذه الدلالات على المفهوم الإيجابي النبيل الذي يراد لخدمة (البشر)، وتيسير سبل حياته ليعيش بسلام سيتضح أن المعنى الأول هو الأنسب والأصلح وهو (النماء) لأنه يدل على الكثرة والزيادة وليست له دلالة أخرى تجعله مشتركا لفظيا، ودلالته دلالة مدحية تنسجم مع تعريف هذا المفهوم الذي يقول : >ويمكن الحديث عن بداية تعريف التنمية البشرية انطلاقاً من مقدمة الإعلان العالمي عن حق التنمية الذي اعتمد ونشر في 4 كانون الأول 1986م حيث ظهر تعريف التنمية البشرية على أنها عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية، وسياسية شاملة تستهدف التحسيس المستمر لرفاهية السكان بأسرهم، والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم النشيطة والحرة والهادفة في (التنمية) وفي التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها))(محسن الندوي : الشباب والتنمية ص 52).
وهذا يتناسب إلى حد بعيد مع دلالات فعـل نمى المجرد وما يشتق منه ومن ذلك قوله : >وفي الحديث : ينمي صُعُوداً : أي يرتفع ويزيد صعوداً)). وكل ما يساعد على النماء صعوداً يدخل في هذا المعنى.