دة. أمينة اللوه
والأخلاق الإنسانية الحميدة:
هذه هي مالكة الفاسية، ومعلوماتي عنها لا تستند إلى وثائق مكتوبة أو أخبار مروية، ولكنني أستمدها من الواقع ومن المرافقة والمشاهدة والمعايشة.
لقد تحدثت باختصار شديد عن مالكة الفاسية المناضلة المجاهدة الثائرة على التقاليد البالية الموقعة على الوثيقة الذهبية، المدافعة عن حقوق المرأة، ذات السبق في الكتابة النسائية، وعن مالكة الفاسية المتفرغة للعمل الاجتماعي، وبهذا الأخير ختمت أعمالها في هذه الدنيا..
ولكن هل عرفنا الجانب الآخر للفقيدة، وأعني به الجانب الإنساني أو الحميمي؟
سأتحدث عن هذا الجانب، فقد عرفت عنها سجايا آسرة، أذكر بعضها فقط، وإلا فالسلسلة طويلة :
1- العطاء بلا حدود : أعطت حياتها لبلدها، لقد استغلت حياتها فيما ينفع الناس : {فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}.
أنفقت في ميادين الخير سرا وعلانية..
سعادتها تتجلى عندما تبذل وتعطي، وفي هذا يقول الشاعر الألماني الكبير غوته Goethe : >فقط الذي يعطي هو الرجل السعيد< وقد كا نت سعيدة حقا، ولذلك كانت الابتسامة لا تفارق وجهها السمح مهما كانت الصعاب أو المثبطات، فالابتسامة المشرقة لا تنبع إلا من قلب سعيد مطمئن..
ويتجلى هذا بكيفية واضحة فيما كانت تغدقه على الجمعية، فهي السباقة دائما إلى العطاء، بالإضافة إلى ما كان يعرف عنها -رغم إخفائها له- من إعانة الفقراء، ومساعدتهم على الكراء ومتطلبات الحياة…
2- الوفاء للأصدقاء : وهي من الصفات البارزة التي لفتت نظري.. الوفاء، هذه العملة النادرة اليوم كانت من المكونات الأخلاقية الأساسية للفقيدة، هذه الخصلة الحميدة التي تكوّن جزءاً من السلوك الإسلامي الرفيع كانت من أعظم سماتها..
الصداقة عندها لا تقبل المراوغة أو النفاق أو الاستغلال، تتفقد أحوال الأصدقاء، رجالا ونساء، تعودهم، تزورهم دون أن يمنعها من ذلك وهَنٌ صحي، أو بُعد المسافة، فالصداقة تتطلب التضحية أحيانا..
كان سلوكها هذا يذكرني بالمرحوم العلامة المختار السوسي الذي كان يسافر إلى أقصى الشمال أو إلى أقصى الجنوب فقط ليزور أصدقاءه، ويتفقد أحوالهم ثم يعود أدراجه في نفس اليوم إلى الرباط..
أمثال هؤلاء الأفذاذ هم الذين نفتقر إليهم اليوم، بعدما أصبحنا نعيش، زمن الأقزام، في زماننا هذا الأغبر..
ومن شيمها أنها لا تعاتب العتاب القاسي، ولا تحاسب رغم تألمها أحيانا من تصرفات البعض نحوها، كثيرا ما كانت تبوح لي بذلك، دون أن أسمع منها كلمة نابية في حق الذين ظلموها، ثم تستدرك : لا يهم، المهم أنني أحافظ على العهد ولا أخل بمبادئ الصداقة، والله يغفر للجميع…
بهذه الأخلاق العالية كانت تقابل الجحود والنكران.
النماذج التي أعرفها عنها كثيرة، ولكنني سأقتصر فقط على نموذجين أؤيد بهما ما قلت.
1- سَمِعَت بمرض الشاعر المغربي الكبير الأستاذ محمد الحلوي المقيم بمرتين(Martin) من ضواحي شواطئ تطوان، وكانت بدورها تعاني في الأعوام الأخيرة من حياتها، اضطرابات صحية لا تفتر، ورغم ذلك، قاومت وتوجهت إلى تطوان رفقة كريمتها فاطمة الزهراء لعيادة صديقها الشاعر، والاطمئنان على أحواله ثم عادت إلى الرباط في نفس اليوم.
وكانت مفاجأة سارة للشاعر، تأثر لها من الأعماق، فأنشد فيها قصيدة رقيقة عبّر فيها عن تأثره بهذه الالتفاتة الكريمة الصادرة منها نحوه..
2- أما مواقفها معي، واهتمامها بشئوني فحدث ولا حرج..
أذكر منها كدليل :
عندما توفي زوجي الأستاذ إبراهيم الإلغي، ورفع إليها الخبر، وبالصدفة كانت على أهبة السفر في ذلك اليوم إلى ألمانيا لموعد لها مع الطبيب هناك.. لكنها أمام النبإ الأليم، ألغت السفر والموعد، وجاءت مسرعة إلى البيت تبكي كالثكلى..
التفاتة كريمة لا تصدر إلا من أصيل ابن أصيل..
ولم تفارقني طيلة أيام العزاء، فقد رأت بحسها الأخلاقي النادر، أن الوقوف بجانب رفيقة عمرها، وهي تجتاز اختبارا صعبا، واجب تفرضه الأخوة الصادقة..
موقف لن أنساه أمد الدهر…
وقد تعددت مواقفها النبيلة معي بشكل لم يسبق لي أن تلقيت مثلها من أحد، ولو أردت ذكرها كلها لاحتجت إلى مجلدات!
وقد عرف الناس هذه الصداقة المتينة التي كانت تجمعني بها، وقدروها حق التقدير، ولذلك انهالت عليّ، يوم إعلان وفاتها عبر التلفزيون، المكالمات الهاتفية، وكنت في تطوان، يسألونني : هل سمعت الخبر، هل أتاك النبأ؟ كيف الحال؟ الله معك، الله معك، نعم سمعت، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإني عليك لحزينة يا لا لا مالكة..!
وتكون في قمة سعادتها عندما تسأل عنها هاتفيا وتبدي أشواقك إليها، فتفرح فرح الأطفال، ثم تلح عليك في زيارتها وشرب كأس شاي معها..
صداقتنا لم تشبها شائبة منذ عرفتها في يوم بعيد من أيام تطوان..
ولأنني كنت أكن لها المحبة الصادقة، والتقدير الفائق كنت أقول لها وبصدق :
إنني أحببت فاس وأهل فاس من خلالك، وأشعر أنني بعشرتك الطيبة أحمل شيئا من روح هذه المدينة الخالدة..
فيسعدها قولي وتجيب : صحيح إنني فاسية حتى النخاع، ولكنني مغربية قبل ذلك، إنني أحب كل ذرة من ذرات تراب بلادي، لافرق عندي بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب كلهم أهلي وأحبابي..
فيذكرني جوابها هذا بما كنت قرأته لشخصية فاسية أخرى تحتل مكان الصدارة عندي، هو الأستاذ الجليل العلامة الدكتور عبد الهادي التازي…
ففي كتابه الموسوعي “تاريخ المغرب الدبلوماسي” يقول : أشعر أنني أنتسب لكل مدينة في المغرب ولكل قرية..< ويقول أيضا : >أشعر بالعقوق أن أتحدث فقط عن مسقط رأسي فاس، دون أن أتشبث بحقي في كل حبة من ترابه وفي كل ناحية من أقاليمه..< ج 2 ص 29.
والدكتور التازي قمة فاسية أخرى، وقيمة علمية يعتز بها المغرب..
مرة قدمت لها ترجمة ملخصة لكتاب عن فاس لكاتب أمريكي لاتيني بعنوان “فاس الأندلسية”، وكنت نشرت الترجمة في حلقات في مجلة البحث العلمي التي يصدرها المعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط (ابتداء من العدد 35 سنة 1985 تحت عنوان “مقتطفات من كتاب فاس الأندلسية”.. ص 225) قرأت الترجمة وأعجبت بما جاء فيها.. وتعبيرا عن تقديرها الصادق وامتنانها لي قدمت الترجمة لزوجها الأستاذ الكبير محمد الفاسي، ولتأثره هو أيضا لما كُتِب عن فاس، وبما كتبتُه شخصيا عن فاس، أهدى إليّ مؤلفا من مؤلفاته وكتب عليه إهداء جميلا أعتز به، وأحتفظ به كأجمل ذكرى عن هذين الراحلين الكريمين..
الصداقة أصيلة فيها
صداقتها نوع من أنواع الوجد الصوفي
الجلوس معها متعة فكرية لا تعوض، متعة من متع الحياة الهاربة…
فيا أيتها الأخت الرائعة، ما أشد لوعتي لفراقك، وما أكبر هذا الفراغ القاتل الذي تركته بذهابك الأبدي، فلنا الله ومنه العوض.. -يتبع-