من أين تبدأ طريق وحدة المسلمين؟ وما هي الخطوات العملية الكفيلة بإيصال المسلمين إلى الوحدة الثقافية؟ لعل من أبرز وأهم ذلك ما يلي :
أولا : تعزيز استعمال اللغة العربية في دول العالم الإسلامي
تشكل اللغة العربية، بما أنها لغة القرآن الكريم، وعصب التراث التعبيري للمسلمين، مركزاً أساسياً، يلي العقيدة الإسلامية، في تحقيق التقارب والتوحّد الثقافي بين الجماعات والشعوب الإسلامية. وهذا يوجب قيام جهوداً استثنائية مضاعفة علـى المؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية بشكل خاص، وعلى مدى عالم الإسلام، لتمكين هذه الأداة الفاعلة من استعادة دورها العالمي (الانتشاري) وإغرائها كلغة إسلامية (أم) لمعظم الشعوب المنضوية تحت لواء هذا الدين، في أن تستقطب اهتمام هذه الشعوب لاعتمادها كلغة أساسية، أو على الأقل، إيلاءها المكانة التي تليق بها جنباً إلى جنب مع اللغات القومية، فضلاً عن ضرورة حماية رسم الحرف العربي في اللغات غير العربية، من الانحسار والاندثار والتغيير (كما حدث في التجربة الكمالية في تركيا مثلاً) وذلك من أجل الإبقاء على الجسور المفتوحة بين الشعوب الإسلامية وبين لغة كتابهم وعقيدتهم وتاريخهم الطويل.
إن هذا يقتضي ـ أيضاً ـ محاولة جادة لمتابعة وتحديد الأسباب التي آلت إلى انحسار اللغة العربية من ساحة الثقافات الإسلامية عبر القرون الأخيرة، ومحاولة إيجاد الإغراءات والصيغ التي تعيد الالتحام ثانية بين هذه اللغة وبين الشعوب التي تدين بالإسلام.
ثانيا : العناية بالآداب والفنون في مد جسور التواصل والتقارب بين الشعوب الإسلامية وربطها بأصولها
وتشكّل الآداب والفنون وسيلة لا تقل أهمية عن سابقتها في مجال تحقيق التعارف والتقارب الثقافي بين الشعوب الإسلامية، لأنها في أساسها تعبير صادق مؤثر عن الذات.
ورغم أن مساحات كبيرة من المعطيات الأدبية والفنية في عالمنا الإسلامي قد انسلخت عن أصولها العقدية وغادرت رحم أمّها المسلم لكي تتهجّن مغرّبة أو مشرّقة، فإنه يتبقى هناك مساحات أخرى لا تزال تعبّر بصدق وجدّية عن الرؤية الإسلامية للحياة ويمكن أن تمارس دوراً في بناء الوحدة الثقافية، إذا أحسن فرزها ومنحها قدرات أكبر على البقاء والنمّو ومواصلة الطريق (الأمر الذي يذكرنا بما تمارسه رابطة الأدب الإسلامي العالمية التي انبثقت في الهند في منتصف الثمانينيات لتغطية هذه الحاجة الثقافية الملّحة لعالم الإسلام).
وفي الحّق فانه لا يكفي أن نعزّز فقط المعطيات الأدبية والفنية ذات الارتباط أو التوجّه الإسلامي، وإنما أن تمضي المحاولة إلى معطيات الآداب والفنون في مساحاتها الشاملة، لكي تنفخ فيها ما وسعها الجهد روحاً من الأصالة والتشبث بالذات المسلمة، من أجل أن يجيء التعبير أكثر تميّزاً وصدقا. فإن الفرنسي أو الإنكليزي أو الروسي لا يهمه أن يقرأ أو يشاهد قصّة أو مسرحية أو قصيدة أو لوحة أو معماراً يعكس أو يستنسخ ما أبدعه الفرنسيون أو الإنكليز أو الروس، وانما هو يريد أن يتعرّف على المعطيات التي تحمل خصوصيتها الإسلامية وتضيف لرصيد الآداب والفنون في العالم شيئاً متميزاً جديدا.
ثالثا : التركيز على المؤسسات الإعلامية وإحياء دورها في تحقيق الوحدة الثقافية
ومع اللغة العربية والآداب والفنون، هناك الأجهزة والمؤسسات والوسائل الإعلامية التي يمكن أن تمارس، في عصر التقنية المتقدمة والتواصل السريع، دوراً فاعلاً في تأكيد وتعميق الوحدة الثقافية لعالم الإسلام.
إن الإذاعة والتلفاز والسينما والمسرح والصحافة ودور النشر، لهي المؤسسات ذات القدرة الهائلة على التأثير الثقافي الفعال على مستوى تحقيق الهوية من جهة، ورسم سبل العمل من جهة أخرى. بل إنها تمثل شرايين التواصل بين الشعوب والجماعات الإسلامية، وجملتها العصبية التي تصوغ التأثير وتكيّف الحياة مانحة إياها وجهها المتميز وروحها الأصيلة.
ولا يكفي ها هنا أن تخصص ساعات أو مساحات محدودة لتقديم البرامج الدينية في هذه الوسائل الإعلامية، ولكن أن تتحوّل إلى قنوات فاعلة للتحقّق بفهم أعمق للإسلام من جهة، ولتعزيز وتوسيع إطارات التعارف والتقارب بين الشعوب الإسلامية ذاتها، وبينها وبين العالم من جهة أخرى.
وكذلك فإن من الضروري أن يسعى المشرفون على هذه الأجهزة إلى تنفيذ أكبر قدر ممكن من التبادل البرامجي، والتعاون الإنتاجي، والنشر المشترك. وأن يكون لإعلام كل دولة من الدول الإسلامية حضور مؤثر فاعل في الأجهزة الإعلامية لشقيقاتها من أجل مزيد من التعرّف على الذات والاقتراب من المطالب والأهداف الحيوية المشتركة، والتحقق بقدر معقول من استقلال الشخصية عبر الخطاب الإعلامي للآخر، خارج الدائرة الإسلامية.
إن الكتاب الذي تسهم في نشره أكثر من دولة مسلمة، والفيلم الذي تنتجه كوادر عربية وتركية وإندونيسية، والبرنامج الإذاعي أو التلفازي الذي يبث على مدى عالم الإسلام كلّه هموم هذا العالم ومطامحه ونبضه المشترك، والصحيفة أو الصحف الأم التي تصدر في وقت معاً في العديد من البلدان الإسلامية، ستعين بلا شك، إلى جانب العوامل الأخرى، على تحقيق الوحدة الثقافية لعالم الإسلام، أو على الأقل بدء الطريق إليها..
أ. د. عماد الدين خليل