تقـديـم :
ظل المسلمون في تاريخهم تجمعهم آصرة العقيدة وتوثق رابطتهم الأخوة الإيمانة، وبهذه الآصرة عاشوا في وحدة جسدية وتآخ اجتماعي وانساني متماسك.
وإذا كانت الوحدة تقتضي مقومين كبيرين : وحدة المكان أو الجغرافيا، ووحدةالإيمان أو الثقافة والفكر والسلوك، وبدونهما يصعب تحقيق هذه الوحدة. فإن وحدة العالم الإسلامي كادت أن تصبح مجرد شبح لا واقع له وخيالاً في الذاكرة التاريخية ومجرد حلم تزداد مع الزمن صعوبة تحققه لسببين كبيرين : أولهما خارجي يرجع إلى الجهود المكثفة من قبل القوى الاستعمارية القديمة والجديدة لمحو كل أثر ومعلم لهذه الوحدة على جميع المستويات أبرزها المستوى الجغرافي والفكري/ الثقافي،وثانيهما داخلي يتمثل في ضعف أثر الجهود المبذولة من قبل أبناء الذات الإسلامية للنهوض ومقاومة كل أشكال التمزيق والتذويب حتى أصبح اليوم من الصعب الحديث عن مفاهيم من قبيل “العالم الإسلامي”و”الثقافة الإسلامية” و”الأمة الإسلامية”و”الوحدة الإسلامية “لأننا صرنا أمام “عوالم إسلامية” وأمام “ثقافات متباينة ومتصارعة” داخل كل قطر أو دولة وأمام “أقطار” و”دول”مختلفة فيما بينها أكثر مما هي متفقة، وأشلاء منفصلة عن بعضها وقابلة لزيادة التفرق والتمزق والتباعد، مما جعل العمل على بناء الوحدة الإسلامية مطلبا ملحا ضمن مطالب مشاريع النهوض الإسلامي المعاصر، لأنه مطلب شرعي وواقعي.
وقد ظلت فكرة الوحدة الإسلامية ولا تزال تواجه تحديات كثيرة وخطيرة للقضاء عليها وذلك من زمن بعيد يرجع بعضها إلى الاختلافات السياسية والفكرية التي وجدت في العالم الإسلامي وكانت تستهدف القضاء على الخلافة الإسلامية والانفصال عنها أو إضعافها، كما يرجع بعضها الآخر إلى بعض الأطراف الخارجية كالغزو المغولي والتتري والهجمات الصليبية،لكن ذلك لم يكن ليؤثر في جسم الأمة الإسلامية -حينما كان قويا- مثلما استطاعت الحركات الاستعمارية المعاصرة تحقيقه سواء على مستوى تمزيق الخريطة الجغرافية للعالم الإسلامي إلى دول وكيانات صغيرة ثم تمزيق هذه الكيانات داخليا على مستوى الاختلاف العقدي والفكري والثقافي بإدخال مذاهب وأفكار غربية وغريبة عن مكونات الاجتماع الإسلامي المبني على الثقافة الإيمانية سياسيا واجتماعيا وخلقيا واقتصاديا…فكيف تم هذان التمزيقان الجغرافي السياسي والثقافي ؟ وما هي آلياتهما ووسائلهما ومظاهرهما ؟ وما حجم الآثار المترتبة عن ذلك؟
أولا : التمـزيـق الـجغـرافي /السياسي:
تم تمزيق وحدة العالم الإسلامي جغرافيا وسياسيا بتقسيمه إلى دول وأقطار صغرى وكيانات سياسية تابعة للدول الاستعمارية وذات ولاءات وتبعيات يصعب فك عراها وأصبحت الرابطة التي تربط هذه الأجزاء بالغرب أقوى من التي تربطها بأخواتها الأجزاء الإسلامية الأخرى التي لم تفصل عن أخواتها أول الأمر إلا كرها ثم صارت لا تلتقي معها إلا كرها!! فما هي الوسائل والطرق التي نهجها الغرب لتمزيق وحدة الأمة وكسر بيضتها ؟
1- القطرية : عمل الاستعمار منذ القرن التاسع عشر على تمزيق دولة الخلافة الإسلامية إلى دول قطرية وقومية وتم زرع مفاهيم مساعة على ذلك وخادمة مثل مفهوم الوطن والوطنية والقومية وتشجيع المناطق التابعة للخلافة الإسلامية العثمانية على الاستقلال، وقبل خروج الاستعمار البريطاني والفرنسي عمل على تقسيم خارطة العالم الإسلامي إلى دول وأقطار وكيانات سياسية صغيرة و”مستقلة”! بعد القضاء على الخلافة العثمانية و تحويلها إلى مجرد دولة على النموذج الغربي العلماني المغرق في معاداته للإسلام وللعروبة إمعانا في سياسة الفصل والتفرقة وزرع العدوانية بين تركيا والدول العربية و الإسلامية.
وهكذا تم تقسيم العالم الإسلامي إلى مناطق ودول، وفي كل منطقة تم إنشاء كيان سياسي مختلف ومعاد للنظام السياسي في البلد المجاور فتجد نظاما ملكيا مجاورا لنظام جمهوري، وآخر لبراليامجاورا لنظام اشتراكي وهذا الأخير مجاورا لنظام هجين من الاشتراكية والقومية أو من اللبرالية والقومية، وآخر علماني بجوار آخر ديني، أو عسكري بجوار مدني…) وبعض الأنظمة خليط عجيب من كل ذلك!! وهكذا تم إقبار الوحدة الإسلامية داخل هذا الفسيفساء السياسي والجغرافي الهجين؛ بل وصار الذين يحملون الأمل في الوحدة بين جوانحهم ويحلمون بها غرباء في أوطانهم مطاردين بسبب حلمهم الوحدوي النبيل الذي يمكن أن ينقذ الأمة من ذل التفرقة والضعف وتغلب الأجنبي!!
2- نزاعات الحدود : لم يكن التقسيم والتمزيق الجغرافي سليما ولا عادلا ولا نهائيا بل حافظ المستعمر على قوته عندما أبهم كثيرا من الحدود بين هذه الدويلات المنشأة ولم يحددها بدقة أصبحت هذه الحدودالمبهمة بمثابة”نار تحت الهشيم” قابلة للاشتعال في أي لحظة لتزج بالإخوة”المستقلين”إلى الاقتتال والحرب (حالة اليمن مع السعودية، وحالة البحرين مع إيران،وحالة العراق مع الكويت، وحالة مصر مع السودان، وحالة ليبيا مع الجزائر وتشاد، وحالة الجزائر مع مالي، وحالة المغرب مع الجزائر، وحالة موريتانيا مع السينغال…وحالة باكستان مع الهند وبنغلادش وأفغانستان مع جاراتها وحالة كل من إيران العراق وتركيا مع الأكراد وما لم يذكر أكثر مما ذكر).
فضلا عن حفاظ الاستعمار الأجنبي بحقه في التدخل في كثير من المناطق واعتبارها مناطق لا تزال تابعة له وعدم تصفية استعماره لها بقصد الاحتفاظ بها للضغط على البلدان التي تطالب بحقها في هذه المناطق ( مثل حالة سبتة ومليلية المدينتين المغربيتين اللتين لا تزال إسبانيا تحتلهما رغم انتهاء عهد الاستعمار الجغرافي!! وتمارس إسبانيا بسبب احتلالها للمدينتينأبشع الضغوط على المغرب في قضايا كثيرة(مثل قضية الوحدة الترابية في الصحراء المغربية،والصيد البحري في المياه الإقليمية المغربية، وعرقلة تطور علاقات المغرب الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي…)).
إن بقاء النزاعات بين الدول الإسلامية على الحدود وقابليتها للانفجار في أي لحظة يعرقل مسيرة العمل الوحدوي الإسلامي باستمرار في ظل ضعف القرار السياسي والإرادة المستقلة لكثير من الأنظمة السياسية بسبب الارتباط العضوي -وجودا واستمرارا وعدما-بدوائر القرار المتحكمة عالميا.
3- دعم حركات الانفصال للزيادة في التجزئة والإضعاف : عمل المستعمر على إبقاء مناطق عديدة قابلة للانفصال عن دولها الأصلية تحت أهداف قومية أو لغوية أو عرقية أو دينية أو إيديولوجية وسياسية مما أصبح يهدد تلك الدول والأقطار بمزيد من التمزيق والتفتيت وبُعْد الأمل في الاتفاق أو التوافق أو على الأقل إمكان التقارب مما أدى إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار والضعف وينذر بإشعال فتائل الحرب الأهلية حالا (حالة ماليزيا، إندونيسيا،العراق حاليا،لبنان، السودان…) أو مآلا-لا قدر الله-،وأصبح التدخل ممكنا في أية لحظة لمساندة حركات الانفصال المؤججة خارجيا والمدعومة سياسيا وعسكريا من قبل الدول الاستعمارية باستعمال البند الدولي “حق الشعوب في تقرير مصيرها ” دون الالتفات إلى البند الدولي الآخر الذي يقر بـ”حق الدول في السيادة على أراضيها” و”منع تدخل أي دولة في سيادة دولة أخرى”!! غير أن العجيب والغريب هو التعامل المزدوج مع حقوق الأقليات فعندما يتعلق الأمر بالأقليات المسلمة فهي وإن كانت تعاني من العنصرية العرقية أو الدينية أو الاضطهاد السياسي والإبادة فإن المجتمع الدولي يلتزم بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلد المضطهِد للأقلية المسلمة ويتحالف ضد الفئات المسلمة ويمنع استقلالها (نموذج البوسنة والهرسك،ونموذج الجمهوريات الإسلامية التي كانت تحت حكم الاتحاد السوفياتي البائد ولا تزال تحت حكم روسيا في حين تم منح الاستقلال للقوميات الأوروبية التي كانت تحت حكم الاتحاد بنفس مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بدون أن يشمل هذا الحق الشعوب الإسلامية!!).
4- زرع الكيان الصهيوني: كانت جهود الدول الاستعمارية لزرع الكيان الصهيوني في قلب جسم الأمة الإسلامية تصب في سياق زرع فيروس من شأنه القضاء الواضح على الوحدة الإسلامية وتشتيت الكيان الحضاري المسلم، وفعلا منذ أن تم ذلك ازدادت الأمة الإسلامية ضعفا وانهيارا، وزادتها المواجهات غير المتكافئة مع هذا العدو انهيارا واستسلاما وتراجعا خطيرا عن المبادئ الثابتة اللهم إلا من بعض المواقف الشعبية والسياسية المحدودة التأثير والتي لا تزال تُسَاوَم على مبادئها وحقوقها الإسلامية الثابتة في فلسطين والقدس. كما زاد العدو الصهيونيمن تقوية ترسانته العسكرية والنووية ليرغم أنف الدول القطرية العربية والإسلامية على القبول والاعتراف به والتعاون معه،وفي نفس الوقت عمل على تفعيل دبلوماسيته المدعومة بالقوة السياسية الذاتية والغربية وأصبح يفرض على المسلمين خيارات التطبيع الاقتصادي والثقافي و(الديني أيضا!! من خلال ما أصبح يعرف اليوم بحوار الثقافات أو حوار الحضارات أو حوار “الأديان”!!).
5- تغييـــر المفاهيم والمسميات الجغرافية : في سياق تفتيت الأمة وتغييبها عن مشروعها النهضوي والوحدوي فقد شنت الدوائر الغربية حملة إعلامية قوية مدججة بترسانة من المصطلحات الجغرافية/السياسية “الجيوبوليتيكية” الجديدة والبديلة عن المصطلحات الخادمة للوحدة الإسلامية التي يتم تسويقها إعلاميا وإغراق السوق السياسية والصحافية والفكرية بها حتى يشيع استعمالها ويستقر، وتحل محل المفاهيم الإسلامية فيتم إقبار الوحدة الإسلامية علىمستوى مسميات الخارطة السياسية فتنمحي من ذاكرة الشعوب الإسلامية ووجدانها سياسيا وثقافيا، وهكذا تم إحلال مفهوم الدولة بدل الخلافة، ومفهوم الوطن بدل مفهوم الأمة، ومفهوم العالم العربي والإسلامي بدل العالم الإسلامي، ومفهوم الشرق الأوسط بدل الشرق الإسلامي، ومفهوم شمال إفريقيا بدل الغرب الإسلامي، ومفهوم الصراع العربي/ الإسرائيلي أو الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي بدل الصراع اليهودي والصهيوني/ الإسلامي…).
6- العولمة الاقتصادية: ساهمت العولمة الاقتصادية في إلغاء الحدود نسبيا وتجاوز مفهوم الدولة التقليدي وتمكنت”ليس من إزالة الحدود فقط، وإنما تحطيم جميع الحواجز والسدود التي قد تتمثل في القوانين والتشريعات وهي مظهر من مظاهر الحدود وشكل من أشكالها. والغاية من هذا كله إتاحة الفرص للسلع والبضائع ورؤوس الأموال والبشر للعبور إلى أي مكان بيسر وسهولة تحت مسميات مختلفة منها”حرية التجارة””(عالم الفكر:العولمة والحدود،ع.4، مج:32، س :2004، ص.61)، وتعتبر المنظمات الاقتصادية العالمية والشركات متعددة الجنسيات أكبر مستفيد من العولمة إلى حد أصبحت “أداة رئيسية في تجاوز الحدود وإضعاف مكانة الدول القطرية أو القومية “(نفسه،ص:66)، بل إن هذه المؤسسات الاقتصادية العالمية أصبحت “بمنزلة سلطات دولية تملك حق وضع الأسس والضوابط والإجراءات ضد من يخل أو لا يلتزم بها”(نفسه نقلا عن : باسم علي خريسان : العولمة والتحدي الثقافي،دار الفكر العربي بيروت، ص:67/70)، وتملك من قوة الضغط ما يمكنها من فرض نوع السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية… التي يجب على الدول الضعيفة نهجها (كحالة العالم الإسلامي)، ومنذ استقلال دول العالم الإسلامي تم ربط اقتصاداتها بعجلة الدول الاستعمارية وبالمؤسسات المالية الدولية والشركات العملاقة اقتصاديا ومع إحكام خناق الربط لم يعد بإمكان هذه الدول الانفراد بالقرار السياسي أو الاقتصادي أو التفكير في تحالفات اقتصادية خارج مركز ثقل الجاذبية الاقتصادية لهذه المراكز الدولية ولم يعد بالإمكان وجود تكتلات اقتصادية إسلامية مستقلة وفاعلة من شأنها تعزيز التقارب بين الدول الإسلامية والتمهيد لنسج خيوط الوحدة ولو في المستقبل البعيد!! إذ يلاحظ المهتمون بهذا الشأن ضعف أثر التكتلات الاقتصادية الإسلامية والعربية وفشل كل اتحادات التعاون الإقليمي الاقتصادي وإجهاضها بعد ولادتها أو شلها حتى تصبح مجرد أشباح ليس فيها أرواح.
ومما سبق يمكن القول إن الوحدة الإسلامية تعرضت لعملية تقطيع جغرافي وتمزيق سياسي وتجزيء قومي وعرقي شنيع كمن يمثل بجثة إنسان حي ويفصل أعضاءها عنها،وبذلك تعرضت الأمة الإسلامية لعملية اجتثاث كبيرة وتشويه مريع لجسدها جغرافيا وسياسيا واقتصاديا وتغيير مسمياتها إمعانا في طمس جميع معالمها الوجودية والمادية، وصارت بمثابة قطع متناثرة ومتنافرة ومتناحرة كقطع الغيار التي تهرأت وتصدأت فيصعب تلحيمها من جديد وإعادة تركيبها كما كانت أول الأمر، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء والقائل في محكم تنزيله {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير}.
> يتبع
د. الطيب بن المختار الوزاني