ثانيا : التمزيق الثقافي
رغم ما يظهر من قتامة التمزيق الجغرافي والسياسي وفعاليته الناجعة في الإجهاز على الوحدة الإسلامية وعلى مشروع إحيائها واستعادتها فإن خطره وضرره ربما لم يصل إلى نفس مستوى الضرر الذي أحدثه التمزيق الفكري والثقافي للأمة الإسلامية لأمرين :
أولا لأنه لو بقيت الأمة الإسلامية موحدة فكريا وعقائديا رغم اختلافاتها المذهبية الذاتية ورغم التجزئة الجغرافية لتمكنت من استرجاع وحدتها السياسية والدينية ما دامت هناك وحدة في الفكر والثقافة، لأن الفكر لا تقف في وجهه الموانع المادية والحواجز الجمركية والحدود السياسية والجغرافية .
وثانيا لأن التقسيم الجغرافي لم يمس إلا المكان والجغرافية عبر حدود وهمية أحيانا أو نسبية خاضعة للزمان والوعي الإنساني بينما الثاني امتد إلى تمزيق الروح وقصف الفكر وتغيير الوجدان الباطني للمسلم والتفرقة الثقافية الاجتماعية،وهذا أعظم أثرا وأقوى خطرا.ووعيا منها بهذه الخطورة لم تكتف الدول الاستعمارية بتفتيت جغرافية العالم الإسلامي إلى دول وأقطار بل عمدت إلى أساليب أكثر دقة لتفتيت القطر الواحد وجعل أهله شيعا وأحزابا متناحرة وقنابل فكرية وعقائدية وسياسية متحكم فيها دوليا وقابلة للانفجار في أي لحظة تناسب تقديرات صناع الحروب ومهندسي الفوضى في العالم.لذلك كان التمزيق الفكري والثقافي أخطر وأكثر جرحا وأسرع إجهاضا للوحدة الإسلامية،فما هي هذه الأساليب التي تمكنت من تمزيق كيان الأمة داخليا؟
1- إدخال مذاهب فكرية وسياسية:منذ الحملة النابليونية على مصر وما تلاها من حملات عسكرية وثقافية على البلدان الإسلامية وما رافقها من بعثات تعليمية إلى الغرب ومن تأسيس مدارس غربية في العالم الإسلامي من باب تقريب الثقافة الغربية من المسلمين !! منذ ذلك الحين والجهود تتواصل لإدخال الثقافة الغربية بقيمها ومذاهبها وأفكارها السياسية والاجتماعية والتربوية وقناعاتها ومحاولة استنباتها في كل بلد وقطر، وفعلا تمكن كثير من أبناء المسلمين من الاقتناع بالثقافة الغربية بجميع تلويناتها حتى صارت البلدان الإسلامية مجرد مناطق للتجارب الفكرية ومرايا تعكس كل ما يظهر في الغرب من مذاهب فكرية وسياسية وأدبية وفنية وتربوية، وصار كثير من المثقفين مثل كثير من التجار بعضهم يروج البضائع والسلع المادية المصنوعة في الغرب ولو كانت فاسدة وبعضهم يروج للسلع والبضائع الثقافية ولو كانت غير صالحة وكل من الصنفين مستلب يظن أنه يحسن صنعا!! وهكذا وفدت علينا المذاهب الفلسفية والسياسية كالعلمانية والماركسية والليبرالية والوجودية والبنيوية والحداثة وتبناها أبناء جلدتنا واستماتوا في الدفاع عنها معتبرين أنفسهم “جماهيريين” و”تقدميين”و”أحرارا” و”مستقلين”و”حداثيين”و”علميين”…وليت شعري متى كانت الجماهير المسلمة تؤمن بهذه العقائد؟ ومتى أعطت موافقتها لأصحاب هذه الأفكار الدخيلة للوصاية عليها؟ بل متى كانت على علم بما تغرد به هذه النخب المثقفة خارج السرب من أنغام نشاز؟ ومتى كان فكر هذه النخبة المتغربة منبثقا من عمق فكر الجماهير؟! وهل الحرية والاستقلال هي التبعية الفكرية والسياسية العمياء للغرب؟ وهل التقدمية والحداثة والعلمية هي استيراد فلسفات الإلحاد والعبثية والعدمية وقيم الإباحية والفحش والعري والنخوة الفارغة في الشوارع ليلا و نهارا على حساب قيم الذات الفاضلة أم أن الحداثة هي تعلم العلوم ومواكبة العصر في مستوى الندية في الإبداع والكرامة وأن نصنع الحدث بنفس مستوى الحدث الذي يصنعه الغير أو أفضل وما ذلك بعزيز على أصحاب الهمم العالية والنفوس المؤمنة الأبية والحكيمة؟ إلى متى يظل مثقفونا أسرى الدهشة الطهطاوية؟ وإلى متى يظلون يعيدون نفس الدهشة ونفس الانهزامية والانخداع بمظاهر الحضارة الغربية؟ ألم يأن لمثقفينا أن يعتبروا بالنموذج الياباني في التعلم على الغرب والارتقاء إلى مستوى اليابان التلميذة التي أصبح بمقدورها أن تقول لا للغرب الأستاذ؟(إشارة إلى كتاب : “اليابان التي تستطيع أن تقول لا”لمؤلف ياباني ذي جنسية أمريكية وعضو في الكونجريس الأمريكي بين فيه أن اليابان استطاعت التفوق على الولايات المتحدة بخمسة أجيال إلكترونية وأصبح بمقدورها الخروج على قوانين الحرب العالمية المفروضة عليها من قبل المنتصرين).
كما اقتنع كثير من أصحاب الكراسي العلمية الجامعية بالنظريات في علم النفس وعلم الاجتماع واللسانيات والسياسة والاقتصاد والقانون.. وصار التناطح بينهم أولا وبينهم وبين أبناء جلدتهم ثانيا أكثر من تناطح مبدعيها فيما بينهم لأن اختلاف أهل التقليد والاتباع غالبا ما يكون أشد قوة وظلما ومضاضة مناختلاف أهل الاجتهاد والإبداع !! فبسبب انتشار هذه المذاهب الفكرية والمنظومات الثقافية الغربية بحمولاتها الاجتماعية والقيمية ازداد الأبناء تشرذما وتمزقا وازداد ذلك حدة باصطناع الصراعات الإيديولوجية الاستنـزافية ورعايتها من قبل الكتل الفكرية والسياسية المستفيدة من ذلك داخل البلدان الإسلامية أو خارجها، الأمر الذي فوت على البلد الإسلامي الواحد فرصة توحد أبنائه وجعلهم شيعا مستضعفين فكيف بالتوحد مع إخوانه وجيرانه المسلمين في البلدان الأخرى؟!.
2- إزاحة الشريعة الإسلامية عن مواقع التدبير والتسيير والتربية والتوجيه: كان دأب الدوائر الغربية باستمرار هو تجفيف منابع الخير واستئصال عناصر القوة في حضارة الأمة لعلمهم أن ليس هناك عنصر يحقق هذه القوة ويكسب المسلمين المناعة والقدرة على المقاومة الذاتية والنمو والحركة إلا الدين الإسلامي بعقيدته وشريعته، إذ بهذا الدين صار للمسلمين ما صار إليهم من خيرية وولاية وشهود وعزة وكرامة وسؤدد، ولم يقاوم الاستعمار إلا المشبعون بالقيم الدينية الإسلامية وهم الذين لا يزالون واعين بخطر السياسات الغربية تجاه الإسلام والمسلمين وهم الذين لا يزال الغرب يحسب لهم ألف حساب لتصفيتهم أو احتوائهم لأنهم هم -وحدهم تقريبا- الذين يحولون دون أغراضه؛ لذلك توجهت العناية المركزة لتحييد هذا الدين عن دائرة توجيه المسلمين والحيلولة دون تغذيتهم بنفس الزاد الروحي والفكري والسلوكي ذلك الزاد الذي يجعلهم ذاتا واحدة مهما اختلفت الأجسام وتناءت الأمصار وتباعدت الأعصار؛ ألم يعلم رسول الله أمته أن ” أرواح المؤمنين جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف”؟! ويوم تمت إزاحة الدين الإسلامي عن توجيه حياة المسلمين سياسيا واجتماعيا وقضائيا واقتصاديا وتربويا فقد المسلمون المرجعية الواحدة، وضلوا عن قبلتهم،وفقدوا بوصلة التوجيه الإيماني والسلوكي والحضاري، وضعف الوازع الديني عندهم وتغلبت عليهم الأهواء وقادتهم الشهوات إلى التنافس في الدنيا كما تنافس فيها غيرهم فأمسك بهم العدو من بطنهم وفرجهم وصار بطنهم لا يميز بين حلال ولا حرام، ولا يقيم فرحهم أي اعتبار للعرض والكرامة ولا لحرمات اللهر، وصار لسانهم يروج كل ما يحلو للغرب أن يروجه، وعقولهم تعيد اجترار ما تعلمته في المدارس الغربية، وقلوبهم تعتقد فيما يزين لهم،ويدهم تبطش بمن يكره الغرب من إخوتهم وذويهم!! فتفرق حالهم فرقا وأحزابا و{كل حزب بما لديهم فرحون} من بهيمية أو قومية أو عرقية أو لغة أو مصلحة أو طائفية أو ولاء وتبعية فانفرط عقد الرابطة الإيمانية وأطلق العنان للشهوات والمصالح والغرائز لتشرع للمسلمين شرائع وقوانين مات في مقاومتها أجدادهم {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله!! وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}.
3- ضعف كثير من السياسات الوطنية وقلة المبادرات الوطنية والشجاعة المبنية على التخطيط المستقبلي الاستراتيجي الحكيم : إذ منذ استقلال البلدان الإسلامية وهي ترفع شعارات التنمية مرت سنون عديدة ووجدت نفسها لم تضع بعد قدميها على سكة قطار التنمية لأن أغلب الحكومات المتعاقبة انشغلت بمصالحها والحفاظ على كراسيها من انقضاض أبناء البلد عليها، وحتى الحكومات التي تسلمت السلطة بتأييد “الجماهير” أو “الجيش”-كما هو ظاهر الأمر- اكتفت برفع شعارات التقدمية والجماهيرية والقومية والحداثة أو التحديث في حين جعلت همها الأكبر تصفية الضمائر الإسلامية والوطنية الحية وعلقتهم على مشجب هذه الشعارات !!وغاب لديها التخطيط للمستقبل وعجزت عن إعداد المشاريع الحضارية الكبرى في التعليم والإعلام والاقتصاد والعلوم الطبيعية والإنسانية وفي الصناعة والعمران وجبنت عن التفكير في بناء الدولة على العدل والحق والكرامةوتوفير الضمانات القانونية والأخلاقية للحرية والمشاركة السياسية الفاعلة والمبدعة، الأمر الذي زاد من تعميق الفجوة بين كثير من الأنظمة الحاكمة وشعوبها، كما زاد في عمق هوة الخلاف بين أبناء الأمة الواحدة وفقد كل طرف الثقة في الطرف الآخر، كما أدى هذا الوضع إلى تمرد الأجيال الصاعدة على سياسات أوطانها ورفض أنماط العيش الذليل فيها، وجعل الشباب أكثر قابلية لنبذ ثقافة الذات وقيمها وأكثر قابلية للهجرة عن الأوطان وأكثر تنكرا لثقافته الإسلامية وأكثر قابلية للارتماء في أحضان الرذيلة واعتناق كل مذهب غربي ولو كان أكثر انحطاطا”، ولو كان كفرا وإلحادا! فانفرط بسبب ذلك عقد الوحدة الإسلامية داخل الوطن الواحد فكيف به بين البلدان الإسلامية !!
4- العولمة الثقافية : كما هو الشأن بالنسبة للعولمة الاقتصادية التي ألغت الحدود الجمركية وسمحت بتدفق السلع بدون رقيب فإن العولمة الثقافية ألغت الحدود الثقافية بين البلدان ومكنت ثقافة البلدان القوية من ابتلاع ثقافة الشعوب المستضعفة وتفكيكها وتفتيتها وإذابتها في كيان الثقافات العالمية المهيمنة، وقد مكنت تكنولوجيا الإعلام والمعلوميات من الاختراق المغرض والسهل واليسير للسيولة الهائلة للمنتجات الثقافية والقيمية الأجنبية التي لم يعد بإمكان الدول الإسلامية مراقبتها أو إيقافها والتحكم فيها ومتابعة انتشارها كما وكيفا ومجالا، ما جعل آثارها السلبية تصل إلى كل فرد وإلى كل بيت ويجعل تأثيرها سريعا في الفرد والأسرة والمجتمع والأنظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية المكونة لكيان الأمة عامة حيث تسربت كل القيم والثقافات التي لم يكن بإمكانها الدخول من قبلُ خصوصا إذا علمنا حجم الفراغ التربوي وضعف المناعة الإيمانية والفكرية الذي أصبح الفرد والمجتمع الإسلاميان يعانيان منه بسبب الإهمال الخطير الذي تعرضت له القيم التربوية الإسلامية في التربية والتعليم والإعلام وسائر مرافق الحياة، مما زاد في ظهور مذاهب فكرية هدامة وميولات ذوقية غريبة وفاسدة وظهور ظواهر سلوكية فردية وجماعية شاذة تزيد الأمة تشتتا وتمزقا، وتسرع من وتيرة الإجهاز بوحشية باردة على ما تبقى من المقومات الثقافية الضامنة لانتعاش الفكرة الإسلامية التي يمكن أن تنتهي في يوم من الأيام إلى الوحدة بين المسلمين
وأخيرا فما ينبغي توكيده هو أن أوجه تمزيق الأمة الإسلامية بنية القضاء على كل مقومات وحدتها الجغرافية والفكرية تعددت وتنوعت، ومنذ أن اعتبرت الخلافة الإسلامية “الرجل المريض”وهي تتعرض للبتر والتقطيع والتمزيق وإجراء مختلف العمليات الجراحية على مراكز القوة المادية والفكرية في هذا الجسم، وقد ساهمت عوامل ذاتية وخارجية في إفقاد الأمة الإسلامية عناصر قوتها في الوحدة الجغرافية والثقافية، ولئن كانت العوامل الخارجية ذات أثر قويفإن أثر العوامل الذاتية أقوى لأنه لو كانت الأمة الإسلامية قوية لما كان لهذه العوامل الخارجية إلا آثار جانبية وموضعية وغير مؤثرة كثيرا؛لذلك فإن الذات الإسلامية لم تكن لها القابلية لأن تتجزأ جغرافيا وثقافيا إلا لأنها تعاني ضعفا شاملا يتمثل في ضعف الإرادة والثقة بالذات، وضعف الإمكانات العلمية والمادية للاستفادة من مقدراتها وثرواتها الهائلة،وثقل التركة التاريخية للتخلف والجهل والاستبداد وإنهاك القوى بسبب الاستغراق في الصراعات الداخلية والمعارك الفكرية والسياسية الثانوية والمفتعلة، وفي وجود القابلية للاستعمار وللتبعية وللانهزام؛ وكان أولى بالمسلمين أن يُخلصوا في إيمانهم لترميم البيت الداخلي والتصالح مع الذات والإخوة والصدق والعزة ليتحقق الخير الكثير لإنقاذ الأمة من التبعية والتفرق والسير بخطى ثابتة وسليمة نحو الاعتصام بحبل الله جميعا وعدم التفرق في الدين ففيهكل مقومات الخيرية للمسلمين قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}آل عمران :103).
د. الطيب بن المختار الوزاني