المصادر الأصلية لميراثنا الثقافي
1- الكتاب:
هو المعبر عنه بالكلمة المقدسة: القرآن. هو المصدر الثر المجلي للبصر والماهد للشعور والموطد للعقل والآخذ بالألباب، والكافي لكل عصر في هيمنة اتساعه، بمحكمه ومتشابهه ونصه وظاهره ومجمله ومفصله، وأيضاً بإيمائه وإشارته وتشبيهه وتمثيله واستعارته ومجازه وكنايته… وغير ذلك من تنوعات البيان. لكن الاستفادة من عظيم خيره تقدر بمقدار ما تتفسح له العقول المنصفة. نعم، القرآن كتاب فوق الزمان والمكان. لكن انحراف النية والنظر أحيانا، قد يسحبه من مقامه المعلى إلى حبس الفكر البشري الضيق. لذلك، لن يتعرف صاحب الفكر والنظر من الزاوية المنحرفة على معانيه العميقة الخاصة به. فان الأرواح الأسيرة التي شدت وثاق فكرها بالأحكام المسبقة التائهة، لن يحيطوا علما بأسرار الكتاب المعجز ببيانه، ولن يهتدوا إلى أفقه الإعجازي أبداً، في أي عصر من العصور عاشوا، وأينما كانوا. إنه أبداً كتابٌ ذروةٌ في العلاء يتعدى آفاق البشر، وبَيِّنٌ لا مثيل له بتنوع تفسيراته وأبعادِ موجات تأويله، ذلك لمن يفتح صدره له بإخلاص وصدق. انه حظ وجَدٌ مهم للإنسان. والتعرف عليه، ثم اللجوء إليه في كل مسألةٍ حظٌ فوق حظٍ وجَدٌّ فوق جد.. لكن كم رجلاً يعرف هذه الحظوة؟ والحق أن لا حل لمعضلة بشرية من غير اللجوء إلى ضيائه، وان لا سعادة باقية يحظى بها الإنسان من غير البناء على أسس بيانه الجهْوَري.
وكم أستاذ في اللسان بنى من البيان صرحاً ساحراً، وكم مفكرٍ أقام نظماً فكرية… لكن صروحهم تهاوت، فهي خرائب، ونظمهم الفكرية اندثرت، فهي ذكرى من أسطر ذاوية في صفحات التاريخ. ولم يحافظ بيان على جدته إلا القرآن… فهو جديد ورويٌّ منذ تجليه في أفق البشر. وما من نظام يرسي بسفينة الإنسانية على بر السلامة، إلا محتوى هذا الكتاب المبارك. في بيانه جذب ولمعان سحري يغدو كل كلام معه لغواً ولغطاً لا معنى فيه. ويستحيل صاغةُ النظم والأفكار إلى فقراء متسوّلين إزاء محتواه الثر.
هذا الكتاب ترجمان لحقيقة الإنسان والوجود والكائنات. فهو يمحص حقيقة الإنسان تمحيصا بالغ الدقة، ويقوّم الأشياء والحوادث تقويما بالغ الحساسية ودقيق التوازن، حتى أن تأملاً قصيراً من كل أحد يدله إلى أن هذا التمحيص والتقويم هو من علم غير متناه. ولذلك، إنسان الروح والقلب الداخل إلى عالم القرآن الآخذ بالألباب، يرى كل شيء يشعر به ويحسه في ذات نفسه كمفردات فهرست، فيطالعها مفصلاً في محتوى كتاب الكائنات، ويستشعرها، ويمضى عمره كله في عالم الإشارات والأمارات، في سعي حثيث نحو القرآن كمن يسيح في الأرض .
نعم، هذا الكتاب ينير أفق عرفاننا إنارة لا يجد الإنسان وحشة (أو غرابة) طريق، ولا احتقان فكر، ولا انقباض روح، أثناء مسيره نحو”عرشِ كمالِ” قلبه على هداه وبدلالته.. يسير دوماً في هذا الطريق الذي يُحس إبّان السير فيه بالعلم مع فورة خفقان القلب، وبالإيمان مع المشاهدة، وبالحمل مع الثقة (الاطمئنان)، وبالالتزام بالنظام مع الإيمان، في تداخل وتمازج… ويتسلق السفوح فيرتقي إلى الذرى حتى يصل أصعب الشاهقات منالاً… فيبلغ آفاقاً يرى فيها وجه حظه وجده الضاحك.
هذا الكتاب يرسل إشارات ويثبّت دلالات إلى أمور مسدَّدة معينة في محلها، لتصل إلى الأعماق الداخلية للإنسان وللكائنات، ورحاب روح الإنسان، وأعظم أبعاده الحيوية مثل الحس والشعور والإرادة والقلب، والغاية والمعنى في خلقة هذا الوجود المتكامل (الإنسان) التي تعد ولادة جديدة للكائنات، والفائقية في تجهيزاته، وسعة دائرة فعالياته، وعظم إمكاناته الكامنة، ورغباته وآماله وخفقانه (تحرك حماسه وعواطفه)… أمور مسددَّة يتهاوى خيال علوم الفلسفة والاجتماع والحياة والنفس والتربية، قبل أن يتصور آفاقه.
ولا أظن أن من يعرف هذا الكتاب يحتاج إلى مصدر غيره في المواضيع الأساسية المتعلقة بالإنسان – والكائنات – والله…. فيكفيه تفصيل مجملاته وتدقيقها. وان الحاصل من تفصيل المجمل وتدقيقه في إطار مرجعيته، يستند بالضرورة إلى بيان للنبي أو مشاهدة متينة أو محاكمة سليمة أو استدلال عقلي قوي.. وهذا يعنى أن كل شيء يجري في فَلَكه.
هذا الكتاب، بنـزوله على اعظم البشر بركة وأسعدهم طراً، في نقطة تحول مهمة لسير التاريخ، استهدف تنظيم حياة المجتمع المحظوظ فردياً واجتماعياً وسياسياً وإدارياً واقتصادياً وروحياً وفكرياً… وحقق هدفه بحملة واحدة، ونفخة واحدة… وصار مصدر إلهام فريد لانقلابات متشابكة حصلت في مجتمع بدوي، لكنها تعد أنموذجاً يقتدى به في الأمم الحضارية. وهو لازال حتى اليوم قوياً وثرياً ومقتدراً لتحقيق الأمور التي حققها لمن يلجأ إليه. نعم، القرآن ثر وواسع في بيان مناسبات الإنسان والكائنات والله… ثراءً ووسعةً لا تدرك قط، ولكن مع الحفاظ على التوطّد والتناسب اللازم في المواضيع التي يمحصها ويحللها. وإذا توخينا مرامي بديع الزمان وإفادته، فالقرآن صوت هذه الكائنات الشبيهة بمَجْمع متشابك وقصر ومشهر عظيم، ونَفَسُها وتفسيرُها، وأوجزُ تلخيصٍ لتفسير وتأويل الأوامر التكوينية، ومفتاحٌ ذهبي مشحون بالسر للمكان العظيم الذي مابرحنا واقفين عليه ومتطلعين إليه مع الزمان الذي هو بعد إضافيّ إليه، وابلغُ لسانٍ وترجمانٍ لذات الله الحق (تعالى) وصفاته وأسمائه، وخيرُ مرصدٍ للاطلاع على الأسرار فيما وراء ستار الأشياء والحوادث، ورسالةُ لطفٍ من الله جل جلاله من بَعْدِ الكون والمكان منعكسةٌ أصداؤها في قلوبنا وألسنتنا، ومصدرُ نورِ عالَمِ الإسلام الرائع وهواؤه وضياؤه، والشرطُ الأساسُ الحتمُ للوجود والبقاء إلى الآباد، وخريطةٌ وتعريفٌ ومرشدٌ للعوالم الأخرى التي ينتظرها كل إنسان في جد واهتمام، بتجسسٍ (تطلعٍ) واشتياق أو بترددٍ (وتذبذبٍ) ورهب، وكتابُ تربية ومجلةُ معرفة وقاموسُ علوم للعالم الإنساني أجمع، لا يضلل أحداً في الطريق إلى الكمالات الإنسانية… ومصدرُ علمٍ وعرفانٍ وحكمةٍ أنقى من كل نقي، وخصوصاً لعالم الإسلام… والحاصل، كلياتُ قوانينٍ منظمَّة وموجِّهةٍ لحياة المسلمين الشخصية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية جميعاً على مدى العصور… ودليلُ السير والسلوك بمحتوياته من الدعاء والذكر والفكر والمناجاة… كتابٌ معجزٌ يرشد إلى أدق تفاصيل الأشياء والحوادث، يوجز اشد الإيجاز ولكن بلا إبهام في شيء، ثر اعظم الثراء، لكنه أجود مع المؤمنين به، كافٍ ومستوفٍ لكل زمان ومكان، لكنه فوق الزمان والمكان.
هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه أحد، حتى الملائك و الروحانيون و الجن،هو مصدر ميراثنا الثقافي الأول الأهم الفذ، الأوسع الأندى الأعمق الأنقى الذي لا يهدأُ تلاطمُ موجه كالبحار ولكن من غير تكدر. هذه الخصوصيات المتعلقة بهذا المصدر المبارك التي عبرنا عنها هنا، ليست إلا إشارات عابرة!.
2- السنة:
السنة في الاصطلاح الفقهي هي أقوال حضرة الرسول وحركاته وما أمر به أو تفضل بالإشارة إليه. السنة – من مقترب آخر – هي أقوال حضرة روح سيد الأنام وأفعاله وتصرفاته، التي لم يبين سيدنا الرسول كونها فرضا أو واجباً، أو التي يجوز تركها أحياناً. فالتي هي من قبيل العبادة تسمى “السنة الإلهية”، والتي هي من جملة عاداته السنية هي “السنن الزوائد”. أما الأصوليون، فلهم مقترب آخر، يرتبط بالقول والفعل والإقرار، فما يثبت بالقول فهو “سنة قولية”، وما يتبين بالفعل فهو “سنة فعلية”، وما تفضل بالسكوت عنه من الوقائع التي شهدها فهو “سنة تقريرية”. فالسنة بفروعها كافة، المتعلقة بالعلم أو الأخلاق، أو البيانات المنورة المتشرفة بالصدور عنه حول التربية والآداب، أو الدساتير الموضوعة في اتجاه تزكية النفس وتربية الروح، مصدر لا ينفد في كل المساحات الواسعة، يضيء عيوننا وقلوبنا.. فما برح إنساننا ينهل من هذا المصدر المبارك، ويستمد منه، منذ عصور طويلة، حتى أن قلنا انه أنموذج حي للسنة، فلا نغادر الصواب.
نعم. السنة مصدر فياض بفضل سعة مساحته في الشريعة، ومرونته القابلة للاستنباطات المتنوعة، سواء للتفسير أو الفقه أو المسائل الاعتقادية أو الأخلاق أو الزهد والتقوى أو الإخلاص… أو الأطر الأخرى. مصدر مبارك لا نجد له نظيراً في العطاء، في دين آخر أو في أمة أخرى. ونكتفي هنا بما ذكرنا، ونحيل إلى المصنفات المكتوبة، أو التي ستكتب، عن السنة للتوسع في هذا الباب.
3- الإجماع:
للإجماع لغة معانٍ منها: الاتفاق والقصد والعزم والعينية. واصطلاحاً هو اتفاق علماء الإسلام المجتهدين في العصر الواحد على مسألة دينية معينة. وبهذا المعنى يكون الإجماع ميزة خاصة بهذه الأمة. فموضوع الإجماع لا ينصَبّ على معنى اجتماع الناس جميعاً والعوام منهم خاصة، بل ينصب على اتفاق المجتهدين القادرين على الاستنباط من الأدلة الأصلية في مسألة معينة واجتماعهم على رأي واحد فيها. فلا يعد إجماعاً اتفاق العوام على شيء من المسائل، كما لا ينعقد الإجماع في مسألة تناقضها الأدلة الشرعية.كذلك، لا حكم للإجماع في النص الصحيح للشارع، وفيما هو معلوم من الدين بالضرورة. كذا في مواضيع مثل حدوث الوجود. ويقع خارج شمولية الإجماع مواضيع مثل ثبوت حقيقة وجود الله ووحدانيته والنبوة. وأيضا في الأمور التي يتعلق فهمها بتصريح الشارع كأحوال الآخرة وعلامات الساعة وأنواع النعم والعذاب في الأخرى.
ونسوق هنا نصين فقط من الأدلة على حجية الإجماع هما حديث النبي صلى الله عليه وسلم “لا تجتمع أمتي على ضلالة” و “يد الله مع الجماعة”. وفيهما الكفاية على أن التأييد الإلهي يتظاهر على الجماعة خاصة.
ولا يُعتدّ بالمطالعة المختلفة للزيدية في شأن الإجماع، أو التفسير المختلف للشيعة، أو حصر الظاهرية نفاذه في مرحلة زمنية معينة. فان هذه المسائل لا ترقى إلى قوةٍ تنقضُ حجية هذا المصدر المهم للثقافة، ولا تمس أسسه، لكن هذا لا يعني الاستخفاف بهذه المعارضات، وجواب الجمهور على المعارضات، وقد استوعب ذلك مجلدات من الكتب… وليس هذا محله. لقد أردنا هنا أن نذكرّ بان الإجماع مصدر مهم في ميراثنا الثقافي.
د. محمد فتح الله كولن