كثيرة هي الألفاظ والمصطلحات التي تستعمل يوميا للتعبير عن مفاهيم معينة مما تقتضيه طبيعة مستجدات الحياة، في هذا المجال أو ذاك، واللغة كائن حي يواكب تطور الحياة، أو هكذا ينبغي أن تكون، وإلا تم تجاوزها، والتعبير بما يصلح لتأدية الغرض المقصود مما يمكن اقتراضه من لغة أخرى غير لغة المتكلم الذي قصرت لغته عن التعبير عما يحيط به من المستجدات، وهذا ما يدعو إلى الإبداع اللغوي من حيث القواعد والمفردات، لسد الفراغ وتلبية الحاجات، وهذا عبء ثقيل يقع على عاتق من يتصدرون حمل الأمانات العظمى في الأمة ثم يليهم أهل الاختصاص إن فطنوا له بالشكل المطلوب، فمن علامات صحوة الأمة في مرحلة من مراحل تاريخها أن تحافظ على مقوماتها التي تميزها وتعتز بانتمائها الحضاري دون شعور بأدنى نقص في أي مجال من مجالات الحياة، وكلما شعرت بنقص في مجال يجعلها قاصرة أمام غيرها من الأمم في ذلك المجال إلا وأسرعت إلى البناء والترميم، ولعل اللغة من أبرز المقومات الحضارية التي تميز الأمم والشعوب، ولا أدل على ذلك في وقتنا الحاضر من جعل اللغة غير مفصولة عن الأمة التي تتكلمها، فنقول مثلا اللغة الألمانية، واللغة الإسبانية، حيث تنسب اللغة دوما إلى الشعب الذي يتكلمها >والغرض بالنسبة أن تجعل المنسوب من آل المنسوب إليه<(شرح المفصل لابن يعيش 141/5) وعليه تكون اللغة المنسوبة من كيان أمتها التي نسبت إليها، فهي شريفة شرف أمتها، ووضيعة بضعتها، وهذا ما يستوجب اليقظة والحذر في أمر اللغة باستمرار بالنسبة لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد من أفراد الأمة، وهيئاتها، ويبدو أن هذا الحس بالنسبة للأمة العربية أصابه ضمور شديد ولذا تمطر الساحة بمستجدات في مجال اللغة لا تخضع لمقاييس اللغة العربية، مما يجعل التواصل مشوشا، والمفاهيم مهزوزة، ولن نطيل في هذا المدخل الذي يتطلب من الزمان والمكان مجالا أوسع لوصف أمراض الأمة وقصورها في هذا المجال بل سنقف عند مثال واحد من الاستعمالات الجديدة التي يقصد بها الدعوة إلى جعل حياة الأمة أفضل في حين أن دلالته اللغوية غير مطابقة للقصد المتوخى ونعني بذلك مصطلح “التخليق” الذي يستعمل في مجال الحياة العامة والخاصة، كـ”تخليق الحياة، وتخليق الإدارة، وتخليق التعليم” والمقصود هو تطبيع المجالات المشار إليها بالأخلاق الحسنة، فهل صيغة “التخليق” تفيد ذلك بحكم وظيفتها الدلالية كما تحددها قو اعد اللغة العربية؟
2- التخليق غير الأخلاق : لأجل ضبط دلالة الصيغتين : “التخليق” على وزن : “التفعيل” و”الأخلاق” على وزن “الأفعال” لابد من الرجوع إلى الأصل الذي أخذا معاً منه، وهو مادة “خ.ل.ق” وهذا الأصل عندما نستنطقه بالحركات في أصله الثلاثي ” خـ-ل-ق” يعطينا ثلاثة أشكال، لكل شكل منها دلالته الخاصة المتميزة هي “خَلَق” على وزن “فعَل” بفتح الأحرف الثلاثة و”خَلِق” بكسر اللام على وزن فَعِل و”خلُق” بضم اللام على وزن فعُل، ولكل شكل وظيفته الدلالية التي تميزه نورد نماذج مختصرة منها كما يلي :
1- خلَق بفتح الأحرف الثلاثة على وزن “فعَل”ودلالتها كما يلي :
أ- خلق الله الشيء يخلقه خلقاً : أحدثه بعد أن لم يكن.
ب- وخَلَق الكذب والإفك يخلقه ابتدعه.
هكذا يتضح أن فعل “خَلَق” بفتح اللام يستعمل استعمالين : أحدهما إيجابي، والثاني سلبي، والعلة أو السبب الموجه لهذا المعنى أو ذلك هو نوع الفاعل الذي يسند إليه الفعل “خلق”. فالفاعل إمّا أن يكون هو الله تعالى، ويكون المعنى إيجابيا، أو غير الله ويكون المعنى سلبيا يقول الفيومي : >خلق الله الأشياء خلقاً، وهو الخالق والخلاّق، قال الأزهري : ولا تجوز هذه الصفة بالألف واللام لغير الله تعالى، وأصل الخلق : التقدير.. وخلق الرجل القول خلقا افتراه..<(المصباح المنير 95- 96).
2- خلِق بكسر اللام على وزن “فعِل” مثل فرِح يقول ابن منظور : >خلِق الشيء خلَقاً.. املاسّ ولان واستوى (ل ع 90/10 ع1…
3- خلُق على وزن فعُل يقول ابن منظور : >.. وقد خلُق لذلك بالضمّ كأنه ممن يقدر فيه ذلك، وترى فيه مخايله.. ل ع 91/10 ع2.
ورجل خليق بين الخلْق تام الخلق معتدل، والأنثى خليق وخليقة.. وقد خلُقت خلاقة.. وقد خَلُق الثوب بالضم خلوقا أي بلي (ل ع 16/10 – 89).
هكذا يتضح أن دلالات الأصل >خـ ل ق< بأشكاله الثلاثة تنطلق من معاني ثلاثة هي : إحداث الشيء بعد أن لم يكن موجوداً، بجانبيه الإيجابي والسلبي، الإملاس والاستواء، البلى والرثاثة أو استحقاق الموصوف لصفة مّا، وكل هذه المعاني لا تمت إلى >الأخلاق< بأية صلة بل كل واحد منها له مجاله الخاص، هذا عن الحد الأدنى من معاني دلالة المادة >خـ ل ق< المجردة فماذا عن الأصول المزيدة لهذه المادة؟
لمادة >خـ ل ق< فروع مزيدة لعل كل واحد منها ينفرد بدلالته ونورد كل صيغة مركبة في سياق معين لنتبين دلالتها كما يلي :
1- أخلق على وزن >أَفْعل< يقول ابن منظور : >ويقال أخْلَق الرّجل إذا صار ذا أخلاق، قال ابن هرْمَة :
عجبت أثيْلَة أنْ رأتْني مُخْلِقاً
ثَكِلتْكِ أمُّك أَيُّ ذاك يرُوع؟
قد يُدْرِكُ الشّرف الفتى ورِداؤُه
خَلَقٌ وجيْبُ قمِيصِه مرْقُوع<
(ل ع 88/10 ع2.)
2- خلَّـق على وزن >فعَّل يقول ابن منظور: >وقدح مخلَّق : مسْتو أمْلس مُليّن، وقيل : كل ما ليّن ومُلِّس فقد خُلِّق. (ل ع 90/10 ع2).
وقد تخلّق وخلّقْته : طليته بالخلوق، وخلّقت المرأة جسمها : طلته بالخَلوق.. والخَلُوق : طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والصفرة (ل ع 91/10 ع1).
3- تخلق على وزن >تفعّل< ومصدره تخليق يقول ابن منظور : >وفي الحديث : من تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله< قال المبرد : قوله تخلّق : أيْ أظهر في خلقه خلاف نيته، ومُضغة مخلّقة أي تامّة الخلق.. وفي حديث عمر : من تخلّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، أي تكلف أن يُظهر من خلقه خلاف ما ينطوي عليه مثل تصنَّع وتجمّل إذا أظهر الصنيع والجميل، وتخلّق بخلق كذا : استعمله من غير أن يكون مخلوقاً في فطرته، وقوله تخلّق مثل تجمّل أي أظهر جمالاً وتصنّع وتحسّن، إنّما تأويله الإظهار، وفلان يتخلّق بغير خلقه أي يتكلفه قال سالم بن وابِصة :
يا أيها المُتَحلِّي غير شِيمته
إنّ التخلق يأتي دونه الخُلُق
(ل ع 87/10 ع1)
4- خالق على وزن فاعل يقول ابن منظور : >وخالق الناس، عاشرهم على أخلاقهم قال الشاعر :
خالق الناس بخلق حسن
لا تكن كلبا على الناس يهرّ
(ل ع 87/10 ع1)
5- اخْتلق على وزن “افتعل” يقول الرازي : >وخلق الإفك من باب نصر و”اختلقه” وتخلقه افتراه<(م خ ت 187).
6- اخلولق على وزن >افعوعل< يقول ابن منظور : >اخلولقت السماء أن تمطر أي قاربت وشابهت، واخلولق أن تمطر على أن الفعل لاَن، حكاه سيبويه، واخلولق السحاب أي استوى ويقال صـــار خليقا للمطر…(ل ع 91/10- 92 ع1-2).
هكذا يتضح أن لكل صيغة فرعية من بين هذه الصيغ الستة وظيفة دلالية خاصة بها لا تجمعها مع غيرها من الصيغ، اتضح بعضها أثناء عرض الأمثلة كالتكلف بالنسبة لصيغة >تخلق< وبقي البعض الآخر دون توضيح دقيق لتلك الوظيفة، ولا يسمح الوقت للوقوف عند كل واحدة منها، لكن السؤال الوارد بحدة هو : أي صيغة من بين هذه الصيغ يمكن أن يعتبر أصلا للأخلاق حتى نستطيع أن نستنبط لها منه صفة للواقع الذي نريد وصفه بتلك الصفة، مع العلم أن صيغة >التخليق< المستعملة خطأ في إرادة وصف الحياة بالأخلاق >مصدر< ومصادر الأفعال المزيدة قياسية نورد نما ذج منها لنقيس عليها الأفعال الواردة أعلاه، يقول الهاشمي : >وأما مصادر الرباعي فقياسية ولها أربعة أوزان تختلف باختلاف صيغ الأفعال :
- الأول : >إفِعال< لما كان على وزن أفعل نحو أحسن إحساناً..< وهذا ما يطابق مصدر >أخلق< الواردة في المثال 1.
- والثاني >تفعيل< لما كان على وزن >فعّل< نحو علّم تعليما..< وهذا ما يطابق مصدر >خلَّق<.
- الثالث >مفاعلة، وفعال، لما كان على وزن >فاعل< نحو جادل مجادلة وجدالا، وسابق سباقا، وهو ما يطابق مصدر “خالق” الوارد في المثال رقم 4، ويقول : وأما مصادر الفعل الخماسي والسداسي فقياسية أيضا وتكون على وزن ماضِيه بضمّ ما قيل آخره إن كان مبدوءً بتاء زائدة نحو تقدّم تقدُّما… وهذا ما يطابق مصدر >تخلق< الواردة في المثال رقم 3..< (القواعد الأساسية للغة العربية 302) أما مصدر افتعل فهو افتعال مثل اقترب اقترابا، واجتهد اجتهاداً وهذا ما يطابق مصدر فعل >اختلق< الواردة في المثال رقم 5.
وإذا ما ربطنا بين دلالات الأفعال المزيدة المشار إليها أعلاه والمصادر المتفرعة عنها (لأن الأصل هنا هو الفعل وليس المصدر) فإن الأمر يقتضي عرض دلالات المصادر على واقع حياتنا : من حياة عامة وتعليم وإدارة وغيرها مما نريد أن يسود فيه السلوك الحسن، فإننا سنلاحظ. أن التخليق وهو مصدر >خلّق< لا يصلح لوصف هذه المجالات به لأن دلالته تعنى تليين الأشياء، وطلاءها بما يلينها، وهذا يعني تشييء ما يتصل بالإنسان، وهذا قدحٌ أكثر منه مدح، أما مصدر “تخلق” ففيه تكلف ونفاق لأنه يعني إظهار الشيء على غير ما هو عليه في الواقع. في حين أن مصدر >خالق< يعني من جملة ما يعنيه المشاركة بين اثنين في حدث مّا.. وهذا ما يجعل المصادر المذكورة ابتداءً من رقم 2 الخ بما فيها التخليق غير مناسبة لوصف مجالات الحياة بالسلوك الطيب الحسن، ولذا يترجح لهذه الدلالة المثال رقم 1 المأخوذ من مادة >أخلق< على وزن >أفعل< ومصدره كما لاحظنا هو >إفعال< وهنا يعترضنا إشكالان، أولهما يتعلق بصناعة التسمية، لأننا نسمي بالمشتقات مثل اسم الفاعل، كـ”خالد” واسم المفعول كـ”محمود” والفعل المضارع كـ”يزيد” والصفة المشبهة كـ”حسن” والمصدر كـ”الكتاب”… الخ. فإذا لم يكن ثمة اعتراض في التسمية بالمصدر فإن هذا الاقتراح مقبول، وإلا أدخل على التسمية ما يناسب من التعديل حسب ما يتطلبه قانون التسمية عند أهل الفن، وثاني الإشكالين هو أن صيغة أفعل من هذه المادة >خـ ل ق< لها دلالات سياقية متنوعة وهذه التي وقفنا عندها واحدة منها فقط، ومن جملة تلك الدلالات ما يلي : يقول ابن منظور : >… وفي حديث فاطمة بنت قيس : أما معاوية فرجل أخْلَق من المال أي خلو عارٍ، من قولهم حجر” أخلق أي أملس مُصْمَتٌ لا يؤثر فيه شيء… وجبل أخلق : لين أملس..<(ل ع 89/10- 90 ع1- 2) ولعل المناسبة الجامعة بين المسميات بهذه الصيغة >أفعل< هي الليونة في كل.
تلك هي بعض المعالم التي ينغي وضعها في عين الاعتبار عند تسيمة المستجدات إنها اللغة مخزن المشاعر، ومحض المفاهيم ورمز شعور الأمة بعزتها ورحم الله ابن جني إذ يقول في تعريفها : >اللغة : أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم< وتستوقفني في هذا التعريف كلمة >قوم< التي تعني أن تكون للمجموعة البشرية المعبرة بلغة ما رابطة فكرية تجمعها بحيث إذا مست فيها تقوم قومةَ رجل واحد.
د. الحسين كنوان