إن أية محاولة جادة لتحقيق الوحدة الثقافية للأمة الإسلامية، لا تستدعي بالضرورة تجاوز أو إلغاء خصوصيات الشعوب والجماعات التي تنتمي إليها، والتي شكلتها وعدّتها مؤثرات البيئة ورصيد التاريخ. ذلك أن الوحدة والتنوع لا تمثل في حضارتنا الإسلامية نقيضين متضادين بقدر ما هي عامل دفع وإغناء لهذه الحضارة، ومصدر خصب لإرفادها بالمزيد من المعطيات المتنوعة التي تصبّ في نهاية الأمر في بحر شخصيتها الكبرى، فتزيدها ألقاً وتماسكاً وعطاءً ووضوحاً، ما دام أن هذه الشخصية تستمد مكوناتها الأساسية ونقاط شدّها وتوحدّها، ليس من المتغيرات البيئية والتاريخية، ولكن من مرتكزات عقيدتها الثابتة، المكتملة، المحفوظة الحدود والملامح في كتاب الله وسنة رسوله وممارسات الأجيال الإسلامية الموصولة عبر الأماكن والأزمان.
إن أية محاولة لتوحيد المسلمين ثقافياً، من خلال وضع خارطة عمل، أو خطة موحدة، يجب أن تضع في حسبانها أن ثنائية كهذه تنطوي على الوحدة والتنوع، والثابت والمتحول، والصلب والمرن، والدائم والمتغير أي أنها – في نهاية الأمر- يقوم على المرتكزات العقدية والممارسات الحيوية معاً.
هذه الثنائية التي يمكن، إذا أسيء تقديرها حق قدرها، أن تكون أداة للفصل والتباعد، والعزلة والقطيعة، وأن تزيد المسلمين تمزقاً على تمزّقهم، ويمكن ـ كذلك ـ إذا أحسن توظيفها في خطة العمل، أن تكون وسيلة فاعلة للتوحد المرتجى الذي يلمّ شتاته المتنوعة المتغايرة على الأصل العقدي الثابت الكبير.
أما على مستوى التعامل مع الثقافات غير الإسلامية فإنه يكاد يخضع للمبدأ نفسه : احترام التغاير ومحاولة الإفادة منه بتحقيق مزيد من التعارف بين المسلمين وبين ثقافات ومعطيات الأمم الأخرى، وبخاصة الثقافة الغربية المعاصرة.
ومن فضول القول التأكيد على أن تعاملاً كهذا بين المسلمين والغير، لن يكون تعاملاً ندّياً أو متكافئاً، لا يؤول إلى الذوبان أو الاندماج أو فقدان الشخصية، ما لم يتحقق المسلمون أنفسهم بالخطوة الأولى : تنفيذ وحدتهم الثقافية التي تعطيهم مكاناً متميزاً على خارطة العالم، وتمنحهم ثقلهم النوعي، وتجعل عبورهم للتعامل مع الآخرين مأمون العواقب ذا نتائج إيجابية تعزّز شخصيّتهم ولا تلغيها.
إن الثقافة الإسلامية في هذه الحالة يمكن أن تمارس دوراً مؤثراً في العالم كلّه، يزيدها – في الوقت نفسه- قدرة على التأصّيل والتميز..
ذلك أن هذه الثقافة، المستمدة في أساسها من أصولها الإسلامية والمتأثرة بدرجة أو بأخرى بالمنظور العقدي لهذا الدين، تختلف عن سائر الثقافات بجملة خصائص لا تكاد تجتمع إلاّ في إطارها، وأبرز هذه الخصائص ولا ريب قدرتها الفذة المرنة على لمّ سائر الثنائيات التي بعثرتها المذاهب والثقافات الأخرى، وقدرة هذه الأمة، بقوة عقيدتها، أن توفّقبينها وتسوقها في إطار واحد خدمة للإنسان والجماعة البشرية على السواء.
إننا نجد مثلاً ثنائيات من مثل المادة والروح، والجسد والوجدان، والحسّ والعقل، والظاهر والباطن، والحضور والغيب، والقدر والاختيار، والضرورة والجمال، والطبيعة وما وراءها، والتراب والحركة، والوحدة والتنوّع، والمنفعية والأخلاقية، والفردية والجماعية، والعدل والحرية، والوحي والتجريب، والدنيا والآخرة، والنسبي والمطلق، والفناء والخلود.. ثنائيات كهذه تتلاءم وتتناغم وتندمج في كيان الثقافة الإسلامية، بينما هي في سائر الثقافات الأخرى في حالة اصطراع وتضاد، وهي بذلك تشكل عصب المأساة التي يعاني منها الغير والتي يجد نفسه مضطراً -معها- أكثر فأكثر للبحث عن أبدال قد تمنح الفرصة المواتية للثقافة الإسلامية للتحقّق بالتواصل المؤثر مع الآخرين.
إن علينا أن نقيم المزيد من الجسور بيننا وبين الآخرين، ليس فقط لتنسيق طرق الأخذ عن الغير من أجل إغناء شخصيتنا الثقافية، ولكن -أيضاً- بإغراء الغير للأخذ عن ثقافتنا، أو محاولة التعرّف عليها على الأقل، بأكبر قدر من الجدّية والحرص فيما يمنح العلاقة بين سائر الأطراف تكافؤها وندّيتها، وقدرتها على التميز والبناء، وإسهامها الفعّال في صياغة مستقبل الإنسان في هذا العالم.