كلما قرأت المثل المشهور : >التعلم في الصغر كالنقش على الحجر< تبادر إلى ذهني المثل المغربي الذي يحمل نفس الدلالة، وإن كان التعبير مختلفا، وهو >القرد الشّارف ما يتعلم شْطِيح<، مما يعني أن التربية في الصغر لها أهميتها من حيث تكوين شخصية الطفل الناشئ، وتربيته على ما يريده أبواه.
ولعل في قول الرسول : >كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه< ما يشير إلى أن سنوات الطفولة الأولى تكون حاسمة بالنسبة للتكوين، فإما أن تُعزَّز هذه الفطرة وتُتَعَهّد، وإما أن تُشَوَّه وتُحرف ويقْضى عليها، فلا تجد إلا مَسْخا مشوهاً، وتقليداً للآخرين أو اتّباعاً لهم وتبنيا لعقائدهم ومبادئهم، كما يبين ذلك الحديث النبوي، ودائما يكون المسؤول الأول والأخير في هذه الفترة على الأقل : الأبوان، فإما أن يحافظا على هذه الفطرة الطاهرة النقية التي وُلد عليها مولودهما وإمّا أن يتحملا مسؤولية ما قد يصير عليه هذا المولود من الابتعاد عن هذه الفطرة والتنكّر لها.
من القصص الواقعية التي تبين أهمية التربية في الصغر ما حدّثني به أحد الثقات، أن أباً لم يكن يعير اهتماما لقواعد التربية الاسلامية إلا بعد أن كَبرت ابنته البِكر. فلما تنبه إلى ذلك واقتنع به، حاول أن يقنع ابنته هذه بارتداء الحجاب، فكان أن قالت له بلهجة مُسْتَنْكرة : >هَل جُنِنْتَ يا بابا<، >وَاشْ حْماقِيتْ يا بابا<.
كان هذا الرّد كافيا ليقتنع الأب أن الوقت قد فاته، وأن ابنته هاته تحتاج ربما إلى أساليب إقناعية أخرى و ربما إلى وقت أطول حتى تقتنع، وربما قد لا تقتنع، فتركها وحريتها واختيارها، والتفت إلى مولودة له صغيرة، وتعهدها بالتربية الحسنة والتوجيه الأقوم إلى درجة أنها اقتنعت بارتداء الحجاب دون سن البلوغ.
ذات مرة في جو حارِّ قائظ، دخلت ابنتاهمعاً إلى الدار من الخارج، الكبرى متبرِّجة يُلَطِّفُ جِسْمها نسيمُ الهواء، والصغرى متحجِّبة تتصبب عرقا، فأراد الأب أن يختبر إيمانها، فقال لها >يا بنيّة مالك ولهذا اللباس المحيط بك من كل جانب، انظري إلى أختك كم هي مرتاحة في لباسها، لم لا تدعين هذا اللباس، على الأقل في هذا الحر؟!< فما كان منها إلا أن رفعت بصرها إليه وهي تقول مستنكرة : >وَاشْ حْمَاقِيتْ يا بابا<!!
عبارة واحدة في مقامين مختلفين، لكن المتلفظتين بهما، وإن اختلفت مرجعياتهما، واقتناعاهما فإن هذه العبارة تعكس أهمية الاقتناع وأهمية التربية في الصغر، حيث ينشأ الناشئ وهو مقتنع بما تلقاه من أبويه، ولله در الشاعر حين قال :
وينشأ ناشئ الفتيان منّا
على ما كان عوّده أبوه
ويحضرني هنا قصة تلك الطالبة المؤمنة المتحجبة، التي أراد أحد أساتذتها أن يقنعها بنزع الحجاب، وهي تؤدي امتحانا في يوم حار، فكان أن قالت له وهي مقتنعة بسلوكها ومظهرها وعقيدتها، قالت : {قُل نار جهَنّم أشدّ حرّا لو كانُوا يفقَهُون}.
د. عبد الرحيم بلحاج