في الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري ] يقول رسول الله : >إن مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منه:
> طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير.
> وكانت منها : أجادب، أمسكت الماء فنفع الله عز وجل بها ناسا، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا وأسقوا.
> وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.
فذلك مثل :
من فقه في دين الله عزوجل ونفعه الله، عز وجل بما بعثني به، ونفع به، فعَلِمَ وعلَّم.
ومثل : من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله عز وجل الذي أرْسِلْتُ به<(رواه البخاري).
لقد جاء الإسلام باعتباره الحلقة الخاتمة في سلسلة الرسالات السماوية التي كانت حلقات تجديد للدين الإلهي الواحد، وللشرائع الإلهية المتعددة بتعدد وتطور واختلاف رسالات الأمم.. ولقد كان الجهاد الأول والأكبر الذي قام المسلمون الأوائل بفريضته، هو الوعي بهدى الله وعلم النبوة ومنهاج هذا الدين، الأمر الذي أثمر الأمة التي قبلت الإسلام وأقبلت عليه، فتوحدت به ومعه وفيه، فكان الوعي بالذات الإسلامية. والانتماء إلى خصائصها، والانخراط في موكبها، والجهاد في سبيل “آلتقنية الإسلامية”، عندما تجسدت “العقيدة” نموذجا حيا في أمة المسلمين وفي دار الإسلام…
فالعقل الذي أصبح إسلاميا -بعد أن كان جاهليا- جاهلية العرب أو الفرس أو الروم -قد قرأ وتدبر ووعى >كتاب الوحي< و>كتاب الكون<، فأبدع علوم الحضارة وأقام صروح المدنية، بعد أن أضاف إلى إبداعه المواريث الفكرية القديمة، التي عرضها على معايير الإسلام، فاستصفاها وصَفَّاها من غبش الجاهلية ووثنيتها وجورها وزيغها عن سبيل الله.
ذلك مثل الطائفة التي قبلت هدى الله وعلم النبوة فانتفعت به ونفعت -علمَت وعلَّمت- كما تقبل الأرض الطيبة الغيث، فتنبت الكلأ والعشب الكثير!..
لقد واجه المسلمون طواغيت عصرهم، وقواه الكبرى المتحكمة والمهيمنة. وواجهوا مواريث الأمم السابقة -بما فيها من صلاح وفساد- بوعي لا غبش فيه، بطبيعة وتميز وامتياز الرسالة التي يحملونها، وبانتماء لا شرك فيه إلى هذا الدين، وبشوق إلى الشهادة في سبيل إقامة الإسلام وتجسيد القرآن حياة تسعى وتنمو وتمتد وتتطور على هذه الأرض، تحقيقا للخلافة التي أرادها الله لهذا الإنسان في هذا الوجود.
وإذا كان توالي السنين، ومعها طوارئ الأمراض والعوارض، هو مما يصيب الصحة الجسدية بالوهن والعلل، فإن هذه السنة تنسحب أيضا على الأنساق الفكرية، بحيث يصيبها توالي السنين والقرون، والعلل الذاتية والوافدة بالغبش الذي يحجب صفاءها ويقلل من عزمها ويقلل من فاعليتها، فإذا لم يتداركها المجددون بالتجديد والمجاهدون بالجهاد الذي يجسدها نموذجا حيا معيشا، طويت صفحتها الحية، وتحولت إلى متحف التاريخ!..
ولما كانت خلافة الإنسان لله هي إرادة إلهية نافذة، كانت رعايته سبحانه وتعالى لهذا الإنسان إحدى ألطافه ونعمه سبحانه وتعالى على هذا الإنسان.. فكان تعاقب الرسالات السماوية تجديدا للنسق الديني في فكر هذا الإنسان… وعندما بلغ هذا الإنسان مرحلة الرشد، وشاء الله ختم طور النبوة والرسالة والوحي بمحمد ، وبالقرآن الكريم، استمر التجديد سنة من سنن الإسلام، لينفي به المجددون عن هذا الدين طوارئ القرون وعللها، وأمراض الغلو، إفراطا وتفريطا، فالتجديد في هذه الرسالة الخاتمة، هو القائم بمهمة الرسالات المتوالية في تاريخ النبوة القديم، ولذلك كان علماء هذه الأمة، المجددون لدينها، مثلهم في هذا الميدان، كمثل علماء بني اسرائيل في التاريخ الديني القديم.. إنهم ورثة الأنبياء.. يجدد العدول منهم هذا الدين، عندما ينفون عنه الزوائد ويعيدون إليه ما ينقصه.. ويكشفون عن طاقاته وإمكاناته لتفعل فعلها في هداية الإنسان… وصدق رسول الله إذ يقول : >يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها<(رواه أبو داود).
واليوم.. لا نغالي إذا قلنا إن إجماعا يكاد أن ينعقد على أن الفكر الإسلامي يعيش في أزمة، وعلى أن هذه الأزمة الفكرية قد أوقعت أمة هذا الفكر في مأزق حضاري.. فأهل الفكر -بتياراتهم المختلفة- يسلمون بذلك مع اختلافهم في تحديد أسباب هذه الأزمة، وفي تعيين سبل الخروج منها.. وواقع الأمة يشهد على ذلك، حتى لدى الذين لا يتخذون من الفكر صناعة يتخصصون بها ويبرعون فيها…
لقد تحققت نبوءة الرسول ، تلك التي صاغها في حديثه الذي يقول فيه : >بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء<(رواه مسلم).
بل إن هذه الغربة الحالية، هي -حتى الآن- متميزة عن الغربة الأولى، لأن >الغرباء< الذين حملوا الإسلام في عهده الأول قد امتلكوا -على النحو الذي أشرنا إليه- المؤهلات التي جعلتهم يواجهون بها قوى ذلك التاريخ وطواغيته ومواريثه، وينتصرون.. أما >غرباء< هذا العصر من الذين تحققت فيهم صفات الطائفة التي تقبلت الهدى الإلهي والعلم النبوي، والمنهج الإسلامي، فعَلمتهُ وعلّمته، وانتفعت به ونفعت، فإنهم من القلة العددية، وتبعثر الجهود والطاقات، بحيث لا يكاد يدرك الأكثرون لهم فعلا ولا تأثيرا<.
صحيح أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد بحفظ هذا الدين، عندما تعهد بحفظ كتابه المبين {إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر : 9)، لكن الأكثرية من أبناء الأمة قد غدا حفظهم لهذا الدين أشبه ما يكون بحفظ الأرض الجدباء الصخرية للماء، حفظ لا يبدد التركة، لكنه لا ينتفع بها، فضلا عن أن ينفع بها!.. حفظ لا ينبت الكلأ والعشب الكثير.. وإنما هو إمساك للماء، ماء الغيث في انتظار من يتقبله، فينتفع به وينفع، صنعا للجديد بالتجديد.. ذلك هو حال أهل الجمود على الموروث، بالنسبة إلى >الغرباء< أهل التجديد!..
أما الطائفة الثالثة من طوائف هذه الأمة – التي أشارت إليها نبوءة الرسول – فهي تلك التي انتزعتها طواغيت العصر -من القوى الكبرى- بالغزو الفكري والاستلاب الحضاري.. لقد انفصلت عن الوعي بالإسلام والانحياز لمنهجه والالتزام برؤيته والجهاد في سبيله، فغدت، بالنسبة لتراثه، كالقيعان >التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ<!.. إنهم يفرون من الالتزام الإسلامي، فلم يعودوا يرفعون به رأسا، ولا يقبلون هدى الله الذي جاء به رسوله .
لهذا كان عجزنا أمام طواغيت العصر عجزا مخجلا.. فلم ننتصر كما انتصر الأولون.. ولهذا كان فشلنا في الاستفادة بمواريث الآخرين فشلا ذريعا، فلم نستفد منها، ونتفوق عليها كما صنع الأولون.. إن حفظنا لتراث الإسلام -في أغلبه الأعم- هو حفظ >الأراضي الأجادب< التي لم تضيع الماء، لكنها لم تنتفع به، فتلد وتنبت وتبدع الجديد.. وما لم تتغير موازين القوى على خارطة الحياة الفكرية لأمتنا الإسلامية، فيصبح التأثير الأفعل والأعم لتيار الإحياء الإسلامي والتجديد الحضاري، فستظل غربة الإسلام قائمة حتى في ديار أمته، وسيظل عجز هذه الأمة عن تحقيق المقاصد الحقيقية لخلافة الإنسان عن الله : إعمار هذا الكون على النحو الذي تكون فيه كلمة الله هي العليا في هذا العمران.. سيظل هذا العجز عن تحقيق هذه المقاصد قائما!..
ثم.. إن هذه الأزمة الفكرية، التي قادت وتقود الأمة إلى هذا المأزق الحضاري.. ليست خاصية تنفرد بها أمة الإسلام.. فحتى طواغيت اليوم، وقواه الكبرى والمهيمنة، يعانون هم الآخرون من أزمة فكرية، و من مأزق حضاري -كما كان حال أسلافهم الذين واجههم المسلمون الأولون..
> إننا نعاني من >انعدام< وضوح الرؤية، ومن فقدان الاتجاه.. وهم يعانون من >قلة< وضوح الرؤية، ومن فقدان الاتجاه الصحيح.
> ونحن نعاني من >الضعف< الذي يجعل كثرتنا غثاء كغثاء السيل، لا فعل لها ولا تأثير.. وهم يعانون من >تضخم< >القوة المتوحشة< التي تهدد >الوجود< بـ>الفناء<!..
> ونحن نعاني من >فقر الإبداع< لافتقارنا إلى الإحساس بخصوصياتنا، وضعف الانتماء إلى مشروعنا الحضاري، الذي يفجر فينا طاقات الإبداع.. وهم يعانون من >خلل في توازن ثمرات الإبداع<، ففي ميادين القوة والوفرة المادية، قفزت وتقفز حضارتهم قفزات عملاقة، على حين أصابها ويصيبها الفقر الحضاري، والاتساق الداخلي، والاطمئنان الآمل عندما انعدمت في نسقه الفكري حكمة الحياة، وغاية الوجود، وإنسانية القوة والوفرة المادية.. إنه الإبداع الأعرج، القائم على ساق واحدة، الذي حقق لإنسان الحضارة الغربية : قوة الوحوش الكاسرة وشَبع من يأكل في سبعة أمعاء، مع أقصى درجات القلق والعبثية وانعدام المعنى الإنساني للحياة!..
إنهم يألمون كما نألم.. لكن مع اختلاف الأسباب.. الأمر الذي يجعل من خروج الفكر الإسلامي من أزمته، وانعتاق الأمة الإسلامية من مأزقها الحضاري، الحل لا لمشاكلنا نحن وحدها، وإنما يجعل منه إسهاما مطلوبا لترشيد الخيارات الحضارية الأخرى، وخاصة الخيار الغربي مهمة الإحياء والترشيد والتجديد حتى في إطار القوى التي ناصبته وتناصبه العداء!.. مهمة الشهود الحضاري الفاعل في >منتدى الحضارات< الإنسانية1
لذلك.. لاغرابة في أن تتصدر مشكلة >أزمة الفكر الإسلامي< قائمة المشاكل التي تواجه العقل المسلم في هذا العصر الذي نعيش فيه.. ولا غرابة إذا نحن دعونا >أهل الذكر< إلى الاهتمام بها أيما اهتمام، وإلى إدارة أعمق وأوسع الحوارات حول ما لها وفيها من أسباب وأعراض و سمات.
د. محمد عمارة
> مجلة منبر الإسلام