قال تعالى : {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(البقرة : 275)
الغفلة عن الله! هذه أبرز صفات أهل زماننا، فخذ حذرك، واحتط لنفسك، فإن أسباب الغفلة كثيرة، وأبوابها عديدة، ودعاتها كثر، وعواقبها خطيرة، وضحاياها كل يوم في ازدياد، وقد خاطبك الحق جل وعلا بقوله {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}(الأعراف : 205).
فالغافلون غافلون!! لا الله يذكرون، ولا المصير يتذكرون، فقدوا لذة العبادة، وحرموا حلاوة المناجاة، فهم في شهواتهم يعمهون، وفي أهوائهم وما تزينه لهم شياطينهم يتقلبون!
أما أنت فقد جاءتك موعظة من ربك ويكفيك أنها من ربك!! تذكر أن بشرا الحافي التقي الورع، الولي الزاهد كان غافلا عن دينه، لاهيا بدنياه وما إن جاءته موعظة من ربه تنبههحتى تنبه موعظة قد تبدو عادية جدا، لكنها مؤثرة جدا، وبليغة جدا، لقد وجد اسم الله مكتوبا في قرطاس وملقى على الأرض!! فتحركت نفسه، وأشرقت بصيرته وحمل القرطاس ونزل إلى النهر فغسله، وكان لا يملك من الدنيا إلا درهما فيه خمسة دوانق، فاشترى بأربعة دوانيق مسكا وبدانق ماء ورد، وجعل يتتبع اسم الله ويطيبه، ثم رجع إلى منزله فنام فأتاه آت يقول : يا بشر كما طيبت اسمي لأطيّبنّ اسمك، وكما طهرته لأطهرن قلبك(1)!!
ومن هنا كانت بداية بشر!!
تذكر أن عبد الله بن المبارك أمير المومنين في الحديث لم يكن سوى شاب يحب شرب الخمر وضرب العود والغناء! لكن جاءته موعظة من ربه ففتح لها قلبه وعقله، لقد سمع قارئا يقرأ {ألم يان للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق..} فقال : بلى يا رب(2)! فتاب وأناب، وكان من أمره ما كان!!
تذكر أن الفضيل بن عياض سيد البكّائين، وحامل راية العارفين لميكن سوى قاطع طريق، قام يسطو على منزل أناس مساكين، يريد أخذ مالهم وهتك عرض ابنتهم فإذا به سمع قارئا يقرأ {ألم يان للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق..}(3) فولى هاربا، تائبا منيبا. فلقد كانت الموعظة كافية، وغَيْر بشر وابن المبارك والفضيل كثيرون، كفتهم إشارة، وكانت الموعظة بالنسبة إليهم بليغة، فتركوا عالم الغفلة وراءهم ظهريا، وأقبلوا على الله فأقبل الله عليهم، فاحْذُ حَذْوَهُم، وانْسُجْ على منوالهم، تكن على خير إن شاء الله فقد قال الله تعالى {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله}.
عن ابن الحضي الحموي قال : كنت عند الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله في دار العدل بقلعة دمشق وعنده جماعة من الفقهاء والعدول والكتبة، فالتفت إلى كاتبه وقال : اكتب إلى نائبنا بمعرة النعمان ليقبض على جميع أملاك أهلها، فقد صح عندي أن أهل المعرة يتقاضون الشهادة، فيشهد أحدهم لصاحبه في ملك ليشهد له ذلك المشهود له بملك آخر في موضع آخر، فجميع ما في أيديهم من الملك إنما حصلوه بهذا الطريق، قال : فقلت له : اتق الله فإنه لا يتصور أن يتمالأ أهل بلد على شهادة الزور، فقال إنه قد صح عندي ذلك، فسَكَتُّ ، فكتب الكِتاب ودفعه إليه ليُعَلِّم عليه، وإذا صبي راكب بهيمة سائر على نهر بردي وهو ينشد :
اعـدلوا مادام أمـــركم نافذا في النفع والضـرر
واحفظوا أيام دولتكم إنكــم منـها على خـطــر
إنمــا الـدنـيـا وزينتـها حسنُ ما يبقى من الخبَر
قال : فاستدار إلى القبلة وسجد، ثم رفع رأسه واستغفر الله عزوجل مما عزم عليه ثم مزق الكتاب، وتلا قوله تعالى : {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف}(4). فاللهم اجعلنا ممن إذا وعظوا اتعظوا، وإذا ذكروا تذكروا، آمين.
ذ. امحمد العمراوي
—
1- انظر صفة الصفوة 150/2.
2- 3- انظر تفاصيل ذلك فيكتابنا “مواقف من سيرة السلف مع القرآن” : ص 83- 84.
4- انظر مختصر طبقات الفقهاء للنوري، ص : 300.