ما إن أرسلت رسالتي السابقة إلى مدرس على صفحات جريدة المحجة الغراء حتى حاصرتني ردود عبر شبكة الانترنيت مجملها أن بعضهم اعتقد مبالغتي في تحميل المسؤولية للمدرس والانتصار لتخليق التعليم وأذكر أن أحدهم قال وما قيمة الأخلاق في التعليم إذا ظلت البنيات التحتية هشة ولم تدعم برؤوس الأموال… إن المدارس متقادمة والطاولات مهترئة… والأقسام مكتظة والوسائل التعليمية متخلفة.. إن المال يمكن أن يحل الكثير من مشاكل التعليم.. فتجدد المدارس ويعين المدرسون ويخف الاكتظاظ الذي يعد المعضلة الكبرى أمام الاستيعاب الحسن والضبط الجيد والنتائج الرائعة. تذكرت بهذا الرد ما ذكره الحسن الوزان في كتابه وصف إفريقيا عن القرويين وسكن الطلبة المتواضع في المدارس المجاورة ومئونتهم اليومية الضئيلة وبالرغم من ذلك ظلت القرويين مصدر إشعاع وخرجت جهابذة العلماء الذين كان لهم أعظم الأثر في الخافقين. إن الأجيال الحالية محظوظة جدا فقد توافرلها من العناية ما لم يتوفر للأجيال السابقة… برزت موجة المدارس الخصوصية التي حلت معضلة التعليم نوعا ما.. وأنفق الآباء بسخاء على تعليم أبنائهم وإن اقتطعوا من اللقمة والثوب والفسحة… وعلى الرغم من ذلك فإن التعليم ظل متعثرا… أقول لك يا أخي إن المال لا يصنع التعليم صناعة.. وهو ليس شرطا لازبا. إن جملة من الشروط المعنوية مطلوبة قبل أن يطلب المال… هذا الجاحظ موسوعة عصره كان يقضي يومه يبيع السمك على شاطئ سيحان بالبصرة ليكتري دكاكين الوراقين يبيت فيها للقراءة والنظر… لا بد أن تتوفر الأمانة في المدرس والرغبة لدى المتعلم وهي مشروطة بتوجيه المربين وبما اختطوه من رؤى تربوية قوامها الأخلاق قبل المال. هل منع المال العنف والانحلال عن المدرسة الغربية.. والغرب من يصدر النظريات التربوية إلى العالم المتخلف.. وماذا جنينا من نظريات الغرب سوى اندحار وانحدار عظيمين في الأخلاق… لقد أضحى لازما أن يحاط المتعلم بظروف تتوازن فيها المادة والروح… ويمكن أن يحمل على التقشف ويبعد عن رغد العيش وبحبوحته ولا توفر له الكماليات التي هي معضلة انشغاله عن الدرس والتحصيل.. لقد جرى المال في يد الأبناء فانحرفوا وانفتحت عيونهم على آخر تقليعات اللباس وتسريحات الشعر فأرهقوا آباءهم بمتطلبات فادحة واخترقوا عوالم الانترنيت بشكل غير موجه فضيعوا الأوقات وربطوا علاقات مشبوهة.. واختلوا بهواتفهم النقالة فساحوا في الخلاء… فكيف يطلب رجوعهم إلى الجادة وقد خرجوا عنها بسلطان المال…
إن مجتمعنا في حاجة إلى تخليق التعليم قبل التمويل… وهو أمر مرتبط بالإرادات وبالنفوس، والعقل مصدر الأخلاق وهو الحاكم في المادة ولذلك نحتاج إلى سلطان العقل والأخلاق قبل سلطان المال.
إن الانفلات الأخلاقي في كثير من المؤسسات التعليمية آفة لا يعالجها المال بل يعالجها الوازع الديني والأخلاقي بدءا بحضوره داخل الأسرة ثم المدرسة وانتهاء بمن في ذمتهم مسؤولية التعليم… تغادر الفتاة البيت في أبهى زينة ولا أحد يسألها وتدخل المدرسة فيسكت عنها المربون… ويتأخر الإبن في العودة إلى البيت ولا من يتولى أمره… وماذا نقدم نحن -المدرسين- للمتعلمين سوى نموذج قميء وعلم شحيح وخلق شاحب وإنها لمسؤولية جسيمة وإنا غدا عنها لمسؤولون… وكيف إذا بلغ السيل الزبى وكان المدرس أمام مقرر مبيت تشوبه الأفكار الملغومة والتوجهات المغلوطة ثم قدمه على علله إلى المتعلمين ولم يعمل فيه فكرا. أقول هذا الكلام وبين يدي عمل إبداعي في درس المؤلفات لبعض الأقسام التأهيلية لا اعتقد أنه قرر اعتباطا فالذين فعلوا يعلمون ما فيه من فكر مشبوه وذوق سقيم وخلق عقيم وعلى الرغم من ذلك تحملوا وزر تدريسه للناشئة لتكتمل ثالثة الأثافي فالناشئة لن تفيد منه خلقا ولا علما ينتفع به في الدارين…. وإذا كانت الزبونية -ولا غرو- هي التي فرضت تدريس مثل هذا العمل للمتعلمين فواجب المدرس أن يتسلح بالأمانة وأن يجعل من تدريسه مادة تبني ولا تفني وتحيي بإذن الله ولا تميت… بل أن يعيده سهما إلى صدور أعداء الدين والأخلاق أولئك الذين أرادوا بالتعليم تجارة بائرة وغرضا زائلا.
ان التعليم يا أخي فقير إلى الأخلاق وما فائدة تمويله إذا تجاذبه تلميذ لاه ومدرس فاشل ومسؤول نائم وأسرة منهارة ومجتمع تائه… ثم هانحن لا نمتلك مشروعا تربويا ولا رؤية متجددة إلا ما فضل من سؤر الغرب وفتاته… فإذا بالتعليم لدينا كتلك الحداة التي نسيت مشيتها ولم تتعلم مشية الحمام فهل ترى بعد هذا أنه يمكن للمال أن يعوض ما ضاع من أخلاق؟
لله در الشاعر القائل :
وليس بعامر بنيان قوم إذا أخلاقهم أضحت خرابا.
ذة. أمينة المريني