نظراً لأهمية الدرس الذي ألقته الأستاذة المحترمة زينب العدوي ضمن الدروس الحسنية المباركة في رمضان 1428هــ، ونزولا عند رغبة عدد من قراء الجريدة الذين ألحوا على نشره تعميما للفائدة، تقوم جريدة المحجة بإعادة عرضه على صفحاتها نقلا عن جريدة التجديد،
وذلك حتى يتمكن عموم القراء من الاطلاع على مضامينه القيمة
كيف يحمـي الإسلام المال العام؟
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين وصحابته أجمعين. مولاي أمير المؤمنين أتشرف بإلقاء هذا الدرس في حضرتكم المُنيفة، بعد أن أفسحتم للمرأة مجال منابر الدين تبعا لما أعطيتموها في مملكتكم الشريفة،من فرص تولّي الاستشارة الملكية والوزارة والقضاء والسفارة وغير ذلك من أنواع التكريم في المناصب والمسؤوليات باختلاف درجاتها، وبعد إذنكم يا مولاي سأتناول موضوعا وثيق الصلة بانشغالاتكم في باب تخليق الحياة العامة، موضوعا يكتسي أهمية بالغة في عالم تدور فيه رحى الأموال وتثير شره الإنسان، للامتلاك غير الشرعي وللغنى السهل المنال، حتى أصبح البعض يظن أن كل الطرق مستساغة للوصول والاغتناء، وتؤكد على أهمية الكلام من وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع أمور عديدة ، منها أولا دعوة المؤسسات المختصة الدولية بمراقبة المال العام، إلى مبادئ وسلوكيات في التسيير والتدبير نجد أغلبها في جذور ديننا الحنيف.
ثانيا قلة المعرفة بالنظم الإسلامية في هذا الموضوع،حيث إننا نفكر ونتصرف وكأن مرجعيتنا الإسلامية لا تتعدى بعض شؤون العبادات، ثالثا الآثار الإيجابية التي تثمرها سياستكم الرشيدة يا مولاي في ميدان حماية المال العام على أساس توجيهات جاء بعضها على الخصوص في خطاب عيد عرشكم لسنة 2005م، وعلى السنة الحميدة التي تتبعها الدروس الحسنية، فقد اخترنا يا مولاي منطلقا لهذا لدرس آية من سورة آل عمران وهي قوله تعالى : {وما كان لنبيء أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}(üü) وما كان لنبي أن يغل ، فيها قراءتان يُغل أو يَغُل، والأولى قراءة ورش ورجح الطبري قراءة يَغل بمعنى ما الغلول من صفات الأنبياء، أي ما صح ولا استقام شرعا ولا عقلا لنبي من الأنبياء أن يخون في الغنيمة، والنفي هنا يا مولاي نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل، لأن المراد هنا أنه لا يتأتى ولايصح ولا يتصور فضلا على أن يحصل ويقع، وقال الذين قرأوا بـ يَغل بمعنى لا يجوز لأحد أن يخون ولا سيما في التعامل مع النبي ، فالآية كما أورد القرطبي صاحب التفسير الشهير، نزلت في معنى نهي الناس عن الخيانة في الغنائم والتوعد عليها وأنه كما لا يجوز أن يُخان الرسول ، لا يجوز أن يخان غيره، لكنه خصه بالذكر لأن الخيانة معه أشد وقعا وأعظم وزرا، لأن المعاصي تعظم بحضرته لتعيِّن توقيره، والولاة إنما هم على أمرالرسول فلهم حظهم من التوقير، قال المفسرون وتفسير ”ومن يغل يأتي بماغل يوم القيامة”،أي أن من أخذ شيئا خفية يأتي به يوم القيامة حاملا إياه على ظهره ورقبته معذبا بحمله وثقله،مرعوبا بصوته وقد فضح بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد، مولاي لقد حكم ديننا الحنيف من خلال هذه الآية أن اختلاس المال العام يعتبر من الغلول ومعنى الغلول أخذ الشيء خفية وخيانة وهو كبيرة من الكبائر،وبيّن أن الاعتداء عليه جريمة وأن حمايته فريضة، وهذا ما سنتناوله يا مولاي في محورين المحور الأول، سيتطرق إلى موقف الشريعة الإسلامية من التعدي على المال العام، بالرجوع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف، والمحور الثاني وسأتطرق فيه للضوابط التي وضعها الإسلام لحماية المال العام، وهي ضوابط تنظيمية شرعية وقانونية وعقدية مع محاولات مقاربتها مع ما تنادي به المنظمات الدولية، لنستخلص أهم الدروس التي يمكن العمل بها في هذا المجال .
تعريف الغلول
مولاي لقد أجمع العلماء أن على الغالّ، أي كل من أخذ المال العام أن يرد ما غله أو استرداده منه وتسليمه للإمام أو من يمثله في هذا المجال، حتى يودعه في بيت مال المسلمين، وأن للإمام أن يؤدب كل من فعل هذه الفعلة ويعاقبه بالعقاب الذي يناسب فعله، يقول القرطبي في هذه الآية إن الثواب والعقاب في هذه الحالة متعلق بكسب العمل. إن هذه الآية يا مولاي وإن كانت تطرقت إلى موضوع الخيانة في الغنائم، فإن معناها وحكمها يتعدى ويمتد إلى كل من يأخذ ما ليس له بحق من الأموال العامة، إما عن طريق الاختلاس أو النفع أو الرشوة أو الهدية أو المحاباة، ففي الاختلاس والنهب روى الإمام مسلم في صحيحه، عن عميرة بن أبيّ الكندي، قال سمعت رسول الله يقول :’>من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا(إبرة) فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة، قال فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال يا رسول الله أقبل عني عملك (أي اِقبل استقالتي) قال وما لك قال سمعتك تقول كذا وكذا قال وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نُهي عنه انتهى<، والحديث ينص على وجوب اكتفاء العامل أي الموظف بما أوجب له الإمام من أجرة على عمله، فلا يأخذ زيادة عليها ، إلى جانب الاختلاس نجد في النظام الإسلامي، أن أمورا غيره تدخل في حكم الغلول ومنها هدايا الموظفين . روى أبو داود في سننه والبخاري ومسلم في صحيحيهما ، عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله خطب في الناس وقال : >أما بعد فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول هذا لكم ، وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، فو الله لا يأخذ أحدكم منها شيئا بغير حق إلا جاء يحمله يوم القيامة<.
واقتدى الصحابة بسنة المصطفى حيث التزموا بحفظ المال ومراقبته وجمعه وإنصافه، قال عمر ] : ألا إني ما وجدت صلاح هذا المال إلا في ثلاث ،أن يؤخذ في حق، و يعطى في حق، يمنع من كل باطل.
مفهوم الملكية في الإسلام
إن مبادىء الإسلام وأحكامه يا مولاي، في هذا الموضوع تنطلق من كون ملكية الإنسان للمال ليست إلا ملكية وكالة واستخلاف، قال تعالى: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، والمال في الإسلام ليس هدفا قائما في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق هدف سام وهو قيام الأفراد والجماعات، قال تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعلها الله لكم قيما}، أي تقوم بها أحوالكم، ومعايشكم، فالمال يشكل العصب الرئيسي للحياة ، ولهذا اعتبره الإسلام من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية لحفظها وحمايتها، وحفظها، يا مولاي يكون بأمرين :
- أولا: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها.
- ثانيا: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وفي هذا الصدد وضعت الشريعة الإسلامية القواعد والأسس العامة التي تنظم المعاملات المالية بصفة عامة والمال الخاص بصفة خاصة، كما جاءت بالأحكام والقواعد التفصيلية لأغلبها تاركة لاجتهادات علماء المسلمين مسؤولية ملاءمتها حسب العصر والمكان، وفق ضوابط لا تحيد عن أحكام الشريعة الإسلامية، سنستعرض منها كما أسلفت الضوابط الشرعية والضوابط التنظيمية والضوابط العقدية.
>أول ضابط شرعي، هو ضابط الالتزام بالحلال والحرام في صرف المال العام، وسلوك صرف المال العام لا يحيد عن باقي السلوكيات الإنسانية في الأخذ بهذه القاعدة، وصرف المال العام في الوجوه المشروعة غير المحرمة المحددة بالدين قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخديه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد}. واعتمادا على ذلك أوجبت الشريعة الإسلامية الحرص على طلب الحلال والامتناع عن ارتكاب الحرام في إنفاق المال العام وأوصت بأن يكون الإنفاق للصالح العام وللضرورة، عملا بما تقتضيه الحاجة وعملا بالقاعدة الشرعية ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
>الضابط الشرعي الثاني: وهو ضابط القوام أو ضابط الاعتدال في صرف المال العام، ويقصد بالاعتدال في صرف المال العام توظيفه و التصرف فيه في مواضعه وللأهداف المخصصة له، مع تجنب مظاهر الإسراف والتبذير والتقتير وهو ما يسمى حاليا بالاستعمال الأمثل للموارد، ومبادئ الفعالية والنجاعة والاقتصاد الذي تقترن به، وتدعو للعمل بها منظمات دولية، كالمنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة وتنعت كل تدبير تحلى بها واحترمها، بالتدبير الحكيم أو التدبير الفعال، وتعرف الفعالية بأنها صرف للنفقات من أجل الأهداف المرصودة لها، أما النجاعة فتعرف على أنها تحقيق لنفقات ومشاريع معينة بأقل تكلفة أو تحقيق بنفس التكلفة لنفقات ومشاريع أهم، أما الاقتصاد فيتعلق بكيفية اقتناء المدخلات من مواد أولية وموارد بشرية ومالية، بأقل تكلفة وبالنوعية المناسبة وفي الوقت المطلوب، وهذه الأنواع يا مولاي اهتم بها ديننا الحنيف {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذالك قواما}، والقوام معناه في اللغة العدل والاستقامة والاعتدال، وتسوية الشيء لإزالة اعوجاجه، وهونظام الأمر وعماده، والإسراف : هو مجاوزة الحد في كل شيء، ومنها النفقة، قال القرطبي هو: ”الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه” أما التبذير فقد اصطلح الفقهاء على أنه الإنفاق في غير الحق المطلوب من المال، وهذا يختلف باختلاف الحقوق المطلوبة من صاحب المال، والتي من أهمها حق الله وحق الناس، وقد اجتهد بعض العلماء لتحديد الاختلاف ما بين الإسراف والتبذير ومنهم الجرجاني في قوله: الإسراف صرف الشيء فيما ينبغي زائدا عما لا ينبغي الحق الذي فيه، أما التبذير فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي، أما التقتير فإنه منع صرف المال في الحق الذي فيه، ونظرا لمحدودية المال العام بالنسبة للمتطلبات، فإذا تم صرفه دون اعتبار مقادير الحقوق ولا مواقع الحقوق فذلك يعني تقصيرا أو منعا لحقوق الأخرين، وكما قال الماوردي: كل سلف فبإزائه حق منيع وأنه بتبذيره المال قد يضع الشيء في غير موقعه لأن المال وخصوصا المال العام أقل من أن يوضع في كل موضع من حق وغير حق لأن المال يقل عن الحقوق ويكثر عن الواجبات فإذا أعطي غيرالمستحق فقد يُمنع مستحق، وما يناله من الذم من منع المستحق أكثر مما يناله من الحمد لإعطاء غير المستحق.
>الضابط الشرعي الثالث: وهو ضابط الاهتمام بالترتيب الشرعي للمصالح العامة وقد قسمها الفقهاء إلى ثلاثة أقسام، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
<الضروريات: وهي الحاجات والمصالح التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، وتدخل في هذا الباب على سبيل المثال كل المصالح المتعلقة بالأمن والدفاع والعدالة والصحة والتعليم.
<الحاجيات: وهي المصالح والحاجيات التي تسعى إلى التوسعة ورفع الضيق عن الناس في حياتهم ويدخل في بابها جميع المرافق الاقتصادية و الخدمات العامة.
<التحسينيات: وهي المصالح التي تأخذ بما يليق بمحاسن العادات وتدخل فيها كل النفقات التي توفر راحة الإنسان والترويح عن نفسه.
>الضابط الشرعي الرابع: وهو ضابط العدالة، قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط}، وهاتان الآيتان وما في معناهما تهمان جميع أحوال الناس والمكلفين بما فيها أوجه تدبير المال العام، سواء في صرفه أو في تحصيله، و لقد نبه النبي من يأخذ مال المسلمين بغير حق، ويضعه في غير حقه، و يمنع عنه حقوق آخرين فقال >إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة<، وكان عمر ] حريصا على تطبيق هذا المبدأ على ولاته، و يحكى أنه تلقى من واليه عتبة بن فرقد طعاما جيدا وعلم أن المسلمين في تلك الولاية لا يكتفون وبالأحرى أن يأكلوا من مثله، فرده له و كاتبه قائلا إنه ليس من كدك و لا كد أمك، إنه ليس نتيجة لعملك ولا ورثته فأشبع من قبلك من المسلمين في رحابهم، مما تشبع في رحلك، فهذه توصية بأن يكون التناسب بين مستوى عيش العامل و مستوى عيش الذي يتولى عليهم ، وتطبيق العدالة كان يتم إزاء سائر الناس بغض النظر عن مذهبهم و ديانتهم، فقد بعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر ليخرص عليهم ثمارها أي ليقدر غلتها و يأخذ نصيب بيت المال فيها، فحاول اليهود أن يرشوه ليتغاضى عنهم ، في مقدار ما يأخذ منهم فقال لهم أتطعمونني السحت و الله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي و لأنتم أبغض إلي و لا يحملني بغضي إياكم و حبي إياه ألا أعدل بينكم، فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض، وإلى جانب العدالة بين المسؤولين والأفراد، وبين الأفراد مهما كانت ديانتهم، كان النظام الـمالي يعتمد على العدل بين الأقاليم فكانت كل جهة وإقليم، تتولى تحصيل مواردها وإنفاقها على حاجياتها، ولا تنقل إلى بيت المال إلا إذا كانت فاضلة عن حاجات أهل الإقليم المحصلة منها و هذا ما يوافق اللآمركزية دون أن يخل بالتضامن.
النوع الثاني من الضوابط هو الضوابط التنظيمية، وسنستعرض نموذجين هيكليين لتدبير ومراقبة المال العام، و هما بيت المال و ديوان الأزمة، من ثم نتطرق يا مولاي بعده إلى أهم القواعد و المرتكزات التي تنظم المسؤولين عنه، ففيما يخص بيت المال لم يكن للأموال المقبوضة و لا المقسومة ديوان جامع على عهده و عهد أبي بكر ]، بل كان المال يقسم شيئا فشيئا و يعتبر الخليفة عمر ] أول من أنشأ بيت المال و السبب في وضعه أن أبا هريرة ] قدم بمال كثير من البحرين، فاستشار عمر الناس، فقال إن شئتم كلنا لكم و إن شئتم عددنا لكم عدا، فقام رجل و قال، رأيت الأعاجم يدونون ديوانا فدون لنا ديوانا، و نشأت بذلك فكرة بيت المال، و أنشأ عمر كذلك بيت المال الفرعي في كل ولاية، ليكون خاصا بموارد و مصاريف تلك الولاية و ما يزيد يرد على بيت المال المركزي، و جعل لبيت المال أمينا، و الذي لا يقل أهمية عن هذا التنظيم هو أن أمين المال مستقل عن الوالي و عن القاضي.
بيت المال عند المسلمين
ويعتبر كتاب الخراج يا مولاي،، للقاضي أبي يوسف أفضل ما كتب عن بيت المال، وقد كتبه بناء على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الشؤون المالية في خلافته فأوضح فيها مصاريف و موارد بيت المال، و تخضع هذه الإيرادات و المصروفات لتنظيم داخلي محكم على مستوى جميع مراحل تنفيذها لا تتفوق عنه أنظمة المراقبة الداخلية المعمول بها حاليا إلا باعتماد التقنيات الحديثة، و من عناصر هذا التنظيم أولا: تسجيل و تقييد جميع أوامر الصرف الصادرة من ولي الأمر قبل إرسالها للديوان المختص بالصرف و كذا جميع أوامر تحصيل الإيرادات قبل نفاذها، و قد فسر ذلك قدامة بن جعفر في كتابه ”الخراج و صناعة الكتابة” فقال: و مما يحتاج إلى تقويم هذا الديوان أن تخرج كتب الحمول،أي الأموال التي تحمل لبيت المال من جميع النواحي قبل إخراجها إلى دواوينها لتثبت فيها و كذلك سائر الكتب النافذة إلى صاحب بيت المال من جميع الدواوين مما يؤمر بالمطالبة من صاحب بيت المال.
2- اعتماد تأشيرة القيد وفي ذلك يقول قدامة، يكون لصاحب هذا الديوان علامة على الكتب و الصكاك و الإطلاقات يتفقدها الوزير و خلفاؤه و يراعونها و يطالبون بها إذا لم يجدوها لئلا يخطئ أصحابها والمديرون لهذا الديوان فيختل أمره و لا يتكامل العمل به.
3- اعتماد المستندات المثبتة قبل الصرف، فكان لا يتم صرف أي مبلغ من بيت المال إلا مقابل مستندات معتمدة من ذوي الشأن، و تحفظ في الديوان كمستندات تدل على صحة الصرف و لهذه المستندات يا مولاي نماذج أوردها القلقشندي في كتابه ”صبح الأعشى” ويمكن أن نجري مقارنة بين هذه المستندات المثبتة و قائمة المستندات المثبتة التي تقرر بمقر لوزير المالية.
4- ضبط الإيرادات والمصروفات كان يتم عبر مسك دفاتر الإيرادات والمصروفات و كان يعتمد التسجيل فيما كان يسمي آنذاك بتعليق المياومة، و قد عرض النويري في كتابه (نهاية الأرب في فنون الأدب) لكيفية ضبط المصروفات في قوله (والطريق المباشر في بيت المال في ضبط المصروف أن يبسط جريدة على ما يصل إليه من الاستدعاءات والوصولات من الجهات وأسماء أرباب الاستحقاقات و ما هو مقرر لكل من هم في كل شهر بمقتضى توقيعاتهم أو ما شهدت به الاستمارات القديمة المخلدة في بيت المال، ويشطب قبالة كل إسم ما صرف له إما نقدا من بيت المال أو حوالة تفرع على جهة، و يورد جميع ذلك في تعليق المياومة. و يفهم من قوله الاستمارات المخلدة في بيت المال اعتماد الأرشيف المالي الذي يحفظ الحقوق.
5- مراقبة و ضبط المخازن ويتم من خلالها عبر سجلات ضبط الكميات الواردة والمنصرفة و الواردة لكل صنف من المخزونات و كان يتّبع في صرف المواد القابلة للتلف قاعدة : الوارد أولا الصادر أولا.
أما فيما يخص أنشطة التقارير فكان برفع تقرير سنوي عن الميزانية ، كما كانت ترفع كل ثلاث سنوات كشوف تفصيلية يستجلي فيها صاحب بيت المال ما استجد في النواحي من إيرادات أو إيرادات جديدة أوجهات أعيد استغلالها، ولم يكن لها أصل في الديوان. ويقارن بين إيرادات ومصاريف الجهات نوع من البشمركي، ويطابق بين إيرادات ومصاريف الجهات وأرصدة الديوان، وتعتبرهذه المقاربة التحليلية، يا مولاي، مما تجري به النظم المالية والمحاسبية الحديثة.
الهيكل التنظيمي الثاني وهو ديوان الأزمّة: وديوان الزمام هذا يختص في مراقبة مالية الدواوين ومراجعة الحسابات، التي تقدمها هذه الدواوين، وكان يتبعه جميع الموظفين المختصين بمراجعة الحسابات في الولايات، وهو يشبه إلى حد ما ما تقوم به المحاكم المالية التي أنشأها والدكم المنعم، يا مولاي، ورفعها إلى درجة مؤسسة دستورية وأسند إليها مهام المراقبة العليا للمال العام.
وإلى جانب هذه الهياكل التنظيمية أولى الحكام المسلمون الأهمية للقائمين على شؤونه ووضعوا معايير محددة لاختيارهم، كما اتخذوا تدابير حمائية لتتبعهم، وعيا منهم آنذاك أن قيمة المؤسسات بقيمة القائمين عليها.
- أولا : حسن اختيار المسؤولين ، عمل والخلفاء، على إسناد الوظائف المالية إلى من يكتمل فيه الصلاح والكفاءة والأمانة، ودأبوا على اختيار الأصلح، قال : >من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا، وهو يجد من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله<. قال ابن تيمية فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو ولاء عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب أو جنس أو طريقة أو لرشوة يأخذها منه أو لمنفعة أو لضعف في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. فكان والصحابة لا يُقدمون من طلب المسؤولية، ففي الصحيحين عن النبي أن قوما دخلوا عليه فسألوه الولاية، فقال : >إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه<، فما هي الصفات المطلوبة في القائمين على المال العام، أو على الشأن العام؟، بصفة عامة نجملها في: القوة والأمانة، والقوة كما وردت في القرآن الكريم تعني القدرة الجسدية والمعنوية على تحمل متاعب المسؤولية إلى جانب القدرة العلمية، وتقترن هذه القدرة أيضا بالكفاءة الأخلاقية، وهي قوة لأن المال والنفوذ يغريان النفس ويضعفانها. الحفظ والعلم ورد في القرآن على لسان يوسف \ قال تعالى: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}، فكان يعمل، يا مولاي، باستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
ولقد جمع أبو يوسف في كتابه ”الخراج” هذه الصفات ضمن كتاب نصيحة لهارون الرشيد لمن يريد توليته على أمور الأموال، وقال: ورأيت أن تتخذ قوما من الصلاح والدين والأمانة ومن وليت منهم فليكن عالما عفيفا وفقيها مشاورا لأهل الرأي عفيفا لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الله لومة لائم، فإن لم يكن عدلا ثقة أمينا فلا يؤتمن على الأموال.
> المرتكز الثاني : تحديد حقوق القائمين على المال العام وتدعيم استقلاليتهم، بين الحقوق الراجعة لمدبري الشأن العام ليغنيهم عن الحرام بعد وصولهم ، فقال : >من ولي لنا شيئا فلم تكن له امرأة فليتزوج امرأة ومن لم يكن له مسكن فليتخذ مسكنا، ومن لم يكن له مركب فليتخذ مركبا، ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادما فمن اتخذ سوى ذلك كنزا وإبلا جاء به يوم القيامة غالا أوشارقا<، وكان عمر ] يسند الأعمال لأصحاب رسول الله فقال له أبوعبيدة دنست أصحاب رسول الله، فقال له عمر يا أبا عبيدة : إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين، قال أما إن فعلت فأغنهم بالأمانة عن الخيانة ، أي إذا استعنت بهم فأجزل لهم العطاء والرزق، فلا يحتاجون ويمدون أيديهم إلى ما ائتمنوا إليه ومن شأن توفير الحقوق المادية، يا مولاي، توفيرها للساهرين على المال العام، أيضا أن يوثق استقلالهم، وفي ذلك يقول الإمام مالك لا أحب لصاحب الماشية أن ينزل السعاة (محصلو الضرائب) عنده، ولا يعيرهم دوابه خيفة التهمة لكي يخففوا عنه، فالواجب في القائم على المال العام أن يكون مستقلا لأنه مباشر عمل يقتضي أن يكون في القيام به مستقلا بكفاية المباشرين وهذا شرط أساسي تنادي به المنظمة الدولية بالأجهزة العليا للرقابة التابعة للأمم المتحدة، ويمكن إجراء مقارنة مع ما تدعو إليه مدونات الأخلاقيات والسلوكيات لكبرى للمؤسسات المالية والمحاسبية من استقلالية أعضائها في عملهم وتجنب استفادتهم من المزايا والمنح عند مزاولة مهامهم.
3- إحصاء ثروة الولاة والعمال وتتبعها، أول من اعتمد التصريح بالممتلكات عمر رضي الله عنه فكان يطلب من كل والي وعامل أن يكتب قائمة بما يملك قبل أن يوليه مع تتبع ثرواتهم، ومنعهم من الاشتغال بالتجارة ومن تقبل العطايا والهدايا اعتبارا لما ينبغي من تجنب استغلال نفوذهم فكان يصادر ما يكسبون من هذه الهدايا والأعمال، فقد صادر مال أبي موسى الأشعري على الشبهة.والمظنة، حينما كان واليا للبصرة وصادر مال الحارث بن وهب الذي احتج أنه تاجر بماله فنما، فـأجابه عمر ما بعثنا بك للتجارة وإنما بعثنا بك للإمارة. ومن أعجب النماذج يا مولاي على شدة عمر في تتبع ثروات عماله فعله مع صحابي جليل كأبي هريرة رضي الله عنه و كان عامله في البحرين فقد بلغه أنه أثرى أثناء ولايته فأحصى ثروته وصادر ما شك في مصدره وفوته لبيت المال، و قال له استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله، قال أبو هريرة لست بعدو الله وعدو كتابه وإنما أنا عدو من عاداهما ولم أسرق مال الله، فقال عمر فمن أين اجتمعت لك10ألاف درهم ؟ قال خيلي تناسلت وعطائي تلاحق وسهامي تلاحقت، فقبضها عمر منه اعتبارا لأن ظلم أبي هريرة خير من التفريط في حقوق المسلمين.
4- محاسبة القائمين على المال العام: كان الرسول يبعث عماله على الصدقات إلى الأقاليم ويحاسبهم بنفسه ويأمر الصحابة بذلك، والحديث الوارد عند البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي خير دليل على ذلك وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عميرة بن عدي الكندي وقد تم التطرق إليهم بإسهاب.
واقتدى الصحابة بسنة المصطفى ، فكان أبو بكر ] يحاسب عماله على المستخرج والمنصرف، فقد حاسب معاذ بن جبل ]بعد عودته من اليمن وقال له ارفع حسابك وكان عمر يتخذ من موسم الحج لقاء سنويا لمحاسبة ولاته وعماله حيث يقدمون حساباتهم برسم السنة الماضية ، وكان يحضر هذا الموعد السنوي أصحاب المظالم والشكاوى لعرض قضاياهم كما يحضره أيضا الرقباء الذين كان يرصدهم ويبثهم في أنحاء البلاد إلى جانب ما يسمى بالوكلاء الغاصين، وهم المفتشون الذين كان يعهد إليهم عمر بالتحري فيما ينقله الرقباء والعيون من مخالفات.
5- نظام المقاسمة والمشاطرة عند انتهاء المهام أو العزل، سن عمر ] نظام المقاسمة والمشاطرة عندعزل الولاة والمهام عند انتهاء مهامهم يعني ذلك أنه كان يأخذ نصفها، كما كان يجري هذا النظام عندما يشك في مصدر ثرواتهم خصوصا إذا اقترن بجاه عملهم واستعمال نفوذهم، وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية إن عمر صادر أموال عماله فأخذ شطر أمواله لما اكتسبوه بجاه العمل، واختلط ما يختصون به لذلك، فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين.
ويتضح مماسبق يامولاي، دقة نظام الرقابة المالية الذي ابتكرته الحضارة الإسلامية في خطواتها الأولى في تدبير المال العام وحمايته، وإلى جانب هذه الضوابط التنظيمية التي تشكل نوعا من المراقبة الخارجية يتميز النظام المالي في الإسلام بخاصية المراقبة الذاتية، والتي تقترن بعدة ضوابط عقدية.
سألت ما السر في النقاء وقد
تقلبت مناصب تعج بالأوحال.
قال عقيدة وإيمـــان
وحب للوطن يدب في الأوصال.
مولاي: تقترن هذه الرقابة بعيقدة الإنسان، قال تعالى : {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره}، وكذلك تقترن بمدى طلب رضى الله وخشيته، {إن الله كان عليكم رقيبا} فهذا النوع من الرقابة ينبع من نفس الإنسان وضميره وإحساسه بالطمأنينة باجتناب ما يغضب الله، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعرض لغضبه وسخطه ومحاسبته، قال الله تعالى : {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.
مسؤولية القائم على المال
يسعى القائم على المال العام في عمقه كإنسان إلى العمل في حدود الضوابط الشرعية، في تدبير المال العام وينهج السلوك القويم في صرف المال العام ، دون تبذير وإسراف، وفي تحصيله دون ظلم وابتزاز يدفعه إلى ذلك رضى الله ورضى ولي الأمر ورضى المسلمين.و في حالة ما إذا ضعفت نفسه أمام المغريات المادية، بحكم الوظيفة وزين له الشيطان سوء عمله، انتفض قلبه من خشية الله، وثار ضميره على النفس الأمارة بالسوء واستعاذ بالله وتراجع عن فعله، قال عمر ] : >حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا<، رقابة تحمي النفس من وقوع الفعل وتتدارك عواقبه.
هذه يا مولاي هي أسمى درجات الرقابة في النظام المالي الإسلامي، نظام للرقابة الداخلية للنفس البشرية. مولاي إن ما نراه اليوم من برامج إصلاحية لتدبير الشأن العام قصد تخليق الحياة العامة، بعد استنفاد سياسيات اقتصادية ومالية، ما فتئت تبحث عن سبل تحقيق التوازن المنشود بين النمو الاقتصادي والنمو الاجتماعي، فسياسة عقلنة الاختيارات الميزاناتية وسياسات التقشف وسياسات التقويم الهيكلي ما هذا إلا دليل على عدم شمول هذه السياسات وتركيزها على الجانب المادي الصرف في تدبير المال العام، وإنما نراه أيضا ونسمع عنه من تفشي الفساد المالي، واستغلال النفوذ ونهب الممتلكات العامة، في مختلف أنحاء المعمور نهب طال حتى ثروات طبيعية حيوية للإنسان مست التوازن الأيكولوجي. إن ما نراه يا مولاي من هذه الظواهر السلبية بالرغم من تعدد القوانين والأجهزة الرقابية، على جميع المستويات لدليل قاطع على أن الرقابة الخارجية بالرغم من أهميتها لا تكفي ولن تجدي نفعا في غياب الجانب الأخلاقي.
مولاي إن الورشات الاصلاحية الواعدة العميقة فيما يخص تخليق الحياة العامة وتركيز أسس الحكامة الجيدة التي أرسيتم معالمها تعتبر العمود الفقري للفورة الانتقالية والمشاريع الهيكلية، التي يشهدها بلدنا تحت قيادتكم الرشيدة إذ بدونها يا مولاي، لن يتأتى تحقيق الهدف الأسمى الذي ما فتئتم تدعون إليه وهو إرساء تنمية شاملة ومواطنة كاملة لكافة المغاربة. إن حرصكم يا مولاي على إرساء الشفافية في تدبير الشأن العام و الالتزام بالمساءلة، و تقديم الحساب على سائر المستويات، والتصريح بالممتلكات كلها تصب في جذور ديننا الحنيف، ولاغرابة في ذلك فأنتم سبط من لقب بالأمين.
مولاي إن الرقابة الذاتية التي أرسى معالمها ديننا الحنيف، تعتبر من أهم الوسائل الوقائية من الاعتداء على المال العام، لهذا وجب العمل على إشاعة ثقافة الرقابة الذاتية و تقوية مكوناتها الروحية والإيمانية والأخلاقية، حتى يراقب الإنسان نفسه قبل أن يراقب ويحاسب.
بارك الله فيكم يا مولاي أمير المؤمنين، و حفظكم و أمدكم بالتسديد و التأييد والختم منكم يا مولاي أمير المؤمنين
————–
الأستاذة زينب العدوي
رئيسة المجلس الجهوي للحسابات بالرباط.