إن المشروع الحضاري الإسلامي لن يكون بمقدوره المضي قدماً لاستكمال أسبابه ما لم يضف إلى ثوابته الفكرية جملة من الممارسات الواقعية، وينفذ شبكة من الأنشطة العملية على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات والنظم والحكومات. وكلما ازدادت مفردات هذه الممارسات والأنشطة في الكمّ والنوع، اتيح للنسيج أن يزداد مساحة وتجذّراً.
ولقد كان العديد من الحلقات الإسلامية قد بدأ يعمل منذ زمن بعيد، لكنهم في معظم الأحيان ما كانوا يصلون إلى الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم، الأمر الذي قاد بعضهم إلى الكفّ عن العمل، وساق الآخرين إلى حافات اليأس والإحباط، ومضت فئة ثالثة تضرب على غير هدى.
وما كان يعوزهم -ببساطة- سوى مسألتين اثنتين، أولاهما أن يعطوا لأنشطتهم العملية بطانات فكرية مرسومة بعناية في ضوء الثوابت الشرعية من جهة، ومطالب اللحظة التاريخية وتحدّياتها من جهة أخرى. أي أن يبدأوا من إصلاح المنهج الفكري ثم يمضوا في تنفيذ مطالبه على أرض الواقع، وهذا ما لم يتحقق بالشكل المطلوب.
أما ثانيتهما فهي أن يعملوا مع الحلقات الأخرى على مدى جغرافية عالم الإسلام بمنطق التنسيق والتعاضد والتعاون والتكامل، وهي أمور بدهية طالما أكد عليها كتاب الله وسنة رسوله . ومع ذلك فقد أدير الظهر لها.. ليس هذا فحسب، بل ترك المجال لبدائلها السلبية كالارتجال والجهد الانفرادي والعزلة والنفي والاصطراع، أن أن تحلّ محلّها.. إن تاريخنا المعاصر هو -باختصار- تاريخ تفتيت للقوى وهدر للطاقات ما شهدته أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات.
ولحسن الحظ فان مهندسي المشروع المعاصرين أخذوا يدركون، منذ أكثر من عقدين من الزمن، المطالب المشار إليها جيداً، ويدركون معها عوامل التعويق التي وضعت الأمة أو الجماعة في الحلقة المفرغة.
فإذا استطاعوا أن يجعلوا هذه الرؤية بقطبيها الفكري والعملي واضحة تماما قبالة الوعي الإسلامي المعاصر، متحققة بأكبر قدر من الكفاءة في نسيج الحياة اليومية، فإنهم يكونون قد بدأوا البداية الصحيحة للمضي إلى الهدف المرتجى.
خطوة خطوة وحلقة حلقة قد يستغرق قطعها أو تنفيذها زمناً طويلاً، لكنها لن تكون -بأية حال- قفزة في الفضاء أو دعوة فضفاضة لا تقود إلى شيء .. “بطيء لكنها مؤكدة المفعول” كما يقول المثل الإنكليزي!
والسؤال الآن : هو أن الساحة الإسلامية ليست -دائماً- في حالة تقبّل لهذا الجهد الثنائي في أحد جانبيه أو كليهما معاً : الفكر والعمل. بل قد تكون معبّأة -ابتداءً- لوضع العوائق أمام المحاولة وإحباطها.
وهذا صحيح، وصحيح كذلك أن الحياة الإسلامية على امتدادها في الجغرافيا، وعلى استعدادها الطبيعي لقبول الخيرات الأصيلة وطرد المّزيف والدخيل، تنطوي دائماً على مفاصل أو مساحات تسمح بشكل أو آخر، في تنفيذ هذه الحلقة أو تلك من حلقات المشروع. ويبقى على القيادات الفكرية أن تكتشف حجم الفرصة المتاحة هنا أو هناك لتوسيع مساحة النسيج وإحكام حبكه، وهي مهمة ليست هيّنة، كما أنها تتطلب أقصى قدر من التنسيق والشمولية وتجاوز الارتجال وبعثرة الطاقات.
كما أنّ على هذه القيادات أن تفكر بإعداد البدائل المناسبة لكي تحلّ محل خبرات لم تعد صالحة لمطالب الزمن أو المكان .. وخبرات أخرى تعرّضت للحصار والمصادرة والوأد لهذا السبب أو ذاك.
بدائل تكون جاهزة تماماً للنزول إلى الميدان وملء الفراغ الذي قد تترتّب عليه انكسارات واقعية ونفسية كانت السبب -في كثير من الأحيان- للتداعيات التي شهدتها الجماعات الإسلامية عبر القرن الأخير.
بمقدور المرء أن يتذكر هنا بعض نقاط الارتكاز التي يمكن الوقوف عليها لتنفيذ عدد من حلقات المشروع الحضاري، والتي أخذت عبر العقدين الأخيرين بوجه الخصوص تتلقى روافد العطاء فتزداد ـ بفضل الله ـ تدفقاً. ولكن .. مرة ثالثة ورابعة، تبقى الحاجة قائمة إلى اعتماد الصيغ التي تجعل هذه الروافد تتجمع إلى بعضها لكي تصبّ في الهدف الواحد الذي هو في نهاية الأمر هدف حضاري.
هناك -على سبيل المثال- الأداء الفكري (على مستوى الصحيفة، المجلة، الكتاب، العمل الموسوعي، المدرسة، الجامعة، المعهد، الندوة، الملتقى، المؤتمر).
والأداء العلمي (على مستوى البحث، الدراسة، الكشف والاختراع).
والأداء الاجتماعي (على مستوى المنظمة الخيرية، المؤسسات الخدمية أو المالية أو الاقتصادية..).
والأداء الإعلامي (على مستوى الصحيفة، المسرح، السينما، الإذاعة، التلفاز، الكاسيت، الفيديو ..).
وهناك أيضاً الأداء التربوي أو الدعوي أو السياسي بحلقاته وآلياته كافة.
وهناك، فضلاً عن هذا كله، امكان توظيف الفرص التي وضعها هذا الدين بين يدي المنتمين إليه فيما لم يضعه دين أو مذهب آخر في الأرض :
(المسجد.. المنبر.. الحجّ.. الزكاة.. الصدقات.. الأوقاف.. الخ) وهي جميعاً -إذا أحسن التعامل معها- فان بمقدورها أن تعين على نسج حلقات المشروع الحضاري أو النهضوي، شرط أن تتهيأ لها قيادات كفئة تعرف كيف توظف الفرص المتاحة بأكبر قدر من التناغم والفاعلية والانسجام.
أ. د. عماد الدين خليل