حين تتنكر الأمم لحملة الفكر وترمي بتراثهم في مفاوز النسيان، مقابل إفْساحها المجال لثقافة الخواء، تكون بذلك قد دقت إسفين الفناء في نعشها… بالأمس القريب رحلت نازك الملائكة صاحبة ديوان “للصلاة والثورة” وإحدى رائدات الشعر الحديث، واكتفت بنعيها بعض الصحف العربية، وقليل من الفضائيات من خلال الشريط الإخباري المتحرك في أسفل الشاشة… كذلك الشأن بالنسبة للشاعر المغربي محمد بنعمارة الذي أعطى للشعر المغربي والشعر الإسلامي نفحة وجدانية راقية، إضافة إلى دوره الإعلامي المتميز من خلال برنامجه الرائع “حدائق الشعر” بإذاعة وجدة الجهوية، وفي عدد الأربعاء 17 أكتوبر 2007، طلعت علينا يومية “الصباح” بخبر مؤلم مفاده أن بيت المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي رحمه الله في مدينة بستة الجزائرية قد تحول إلى ماخور تباع فيه اللذة الحرام.. ففي الوقت الذي تحتفي به الأمم بنوابغها وتقيم لهم النصب التذكارية وتحول دو رهم إلى متاحف ومنارات للعلم تصل الوقاحة بالمستهترين بالفكر والقيم وكل ما هو جميل، إلى العبث بجمالية الوجه المتنور لحضارتنا العربية الإسلامية.. ألا يتذكر هؤلاء السفهاء والرعاع أن استقلال معظم بلدان المسلمين جاء محمولا على أسنة الرماح والأقلام؟ نتذكر من غير أن نطوف بالأسماء الشاعر الفيلسوف “محمد إقبال” الذي أسس للمسلمين دولتهم في شبه القارة الهندية وحماهم بفكره من بطش الهندوس، نتذكر أيضا البشير الإبراهيمي الذي جعل من صحيفته “البصائر” منبرا لمواجهة بشاعة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وغير بعيد من بلد المليون شهيد كان المرحوم علال الفاسي يشحذ الهمم في كتاباته وهو في منفاه القسري بالغابون والاختياري بأرض الكنانة.. وتتوالى الأسماء التي كان وقع أقلامها على المحتل أشد مضاء من لمعان السيوف “جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، المختار السوسي، بديع الزمان النورسي وغيرهم.. واليوم بدل أن تحرك الأمة نصفها الأعلى، انشغلت بنصفها الأسفل، فكثر اللغط وهز البطن، وأصبح كل ذي تسريحة غريبة فنانا، وكل ذات جسد شهواني نجمة، وحتى الإبداع الأدبي أصبح الاحتفاء به احتفاء تدغدغه رومانسية الجنس الرخيص في النفوس المريضة كما هو الشأن بالنسبة للأعمال الآتية : وليمة لفواكه البحر لصاحبها حيدر حيدر، وعمارة يعقوبين لعلاء الأسواني.. إنها الأمم حين تفقد بوصلتها الحضارية وحسها الوجودي، فتختل موازينها القيمية ورؤيتها لمنابع الحق والجمال.
ذ. أحمد الأشــهــب